لايزال القيادى محمد دحلان، النائب في المجلس التشريعى، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والمفصول منها، يشكل لغزًا محيرًا في معادلة الوضع الفلسطينى، يستأنس به الكثيرون من أنصاره المتفائلين بوجوده الرمزى في غزة، ويستمدون من قوته قوتهم، فلم يكن المنفى الذي اختاره كمحطة مؤقتة في دولة الإمارات العربية بعيدًا عن طموحاته في عالم الأضواء والسياسة، انطلق منها مدعومًا بمباركة شيوخ الإمارات وحكامها مستكملًا طموحه السياسى من حيث توقف على أرض فلسطين، خطف دحلان الأضواء في صولات وجولات يطوف بها دولًا مهمة وأقاليم مؤثرة في صنع القرار الفلسطينى! دحلان رجل المهام الصعبة إن لم تكن المستحيلة عاد إلى الأضواء أكثر صخبًا وإثارة للجدل، مساعٍ حثيثة بذلتها مصر والأردن والإمارات العربية والسعودية وأيضا لبنان لإتمام مصالحة مستحيلة بينه وبين الرئيس الفلسطينى محمود عباس «أبومازن» لكنها باءت بالفشل، عباس يرفض بإصرار وعناد كل محاولات إنهاء القطيعة ويصر على محاكمة دحلان، رافضًا كل الوساطات الداخلية والخارجية التي تجرى من أجل التصالح معه وإعادته إلى صفوف الحركة وأمر بإغلاق ملفه بشكل قاطع، حتى أن فتوراً انتاب اللقاء الذي جمع بينه وبين الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل أيام قليلة في القاهرة، وأشيع من بعض المقربين بأن اللقاء فشل- رغم نفى مسؤولين في السلطة الفلسطينية ذلك- لماذا؟ لأن اسم دحلان كان حاضرًا في اللقاء بقوة.
لقد حاولت أوساط خليجية معنية بملف المصالحة بين عباس ودحلان ورأب الصدع بينهما، واقترحت أن يقوم عباس بتعيين دحلان نائبا له، لكن عباس يغرد في اتجاه آخر فقد حسم قراره تماما ويصر على محاكمته وتقديمه للقضاء فور وصوله الضفة الغربية بتهم فساد مالى وإدارى وقضايا قتل، فضلا عن التهم المتعلقة بالتآمر عليه شخصيا!
إذن من يقرر عودة دحلان؟ وعلى أي أساس؟ وما هو الدور الذي سيضطلع به مستقبلا؟ وهو الآن يمارس دورا إقليميا على امتداد الشرق والغرب كما لو كان رئيس دولة إن لم يكن يشغل مساحة أكبر، مدعوما من الإمارات وبعض الدول المؤثرة؟!
بلاشك أن محمد دحلان استطاع خطف الأضواء ولفت الانتباه في فترة قصيرة، خصوصًا أن الرجل لم يخف استياءه من ثورات الربيع العربى ومعروف بعدائه الشديد لتيارات الإسلام السياسى، وظل بفضل تصريحاته وتحركاته جاذبًا للمتابعة الإعلامية التي لا تخلو من الجدل، فمن موقع إسرائيلى يقول إنه سيعود إلى غزة على ظهر دبابة، إلى مواقع التواصل الاجتماعى التي تشهد اتهامات للرجل بأنه شارك في تمويل الحرب بين الفرقاء الليبيين وبأنه يمثل رأس حربة للثورات المضادة في الدول العربية التي شهدت تلك الثورات، وعندما عين أفيجدور ليبرمان وزيرا للجيش الإسرائيلى قفز اسمه مجددًا في إشارة لعلاقة صداقة حميمة تجمع بينه وبين ليبرمان الراديكالى العنصرى!!
وبنفس القدر يسوق دحلان نفسه في الساحة الأوروبية بمهارة فحين ألقى كلمته أمام منتدى حلف الأطلنطى «الناتو» في نوفمبر من العام الماضى استطاع أن يجذب الاهتمام إليه، وأظهر براعة وحنكة سياسية متميزة حين وجه بوصلة الحديث نحو الإرهاب الذي يضرب قلب أوروبا، مسلطا الضوء على كيفية التعامل مع الإرهاب ومواجهته مركزًا حديثه على «تنظيم داعش»، وكيف أن الدول التي صنعت هذا التنظيم أصبحت الآن في مرمى نيرانه وتعانى من إرهابه.
يبدو أن دحلان يلعب دورًا خطيرًا في المنطقة العربية بعلاقاته المتعددة والشائكة ودخوله بقوة في تحالفات مع دول ضد ثورات الربيع العربى، وما يثار حول دوره في ليبيا يتسق مع التوجه الروسى في المنطقة، واستقباله في موسكو يعكس تحسن في العلاقة بين موسكو والإمارات التي يعمل فيها دحلان مستشارًا للشؤون الأمنية، ويبدو أن الرئيس بوتين يريد اللعب بورقة دحلان والاستفادة من الرجل مستغلًا العلاقة الوثيقة التي تجمع بينهما، خاصة أن هناك مؤيدين لدحلان في سوريا يمكنه تحريك الأحداث من خلالهم بما يتناغم وينسجم مع التوجه الروسى الداعم لنظام بشار الأسد.
الإطاحة بالرئيس عباس باتت حديثا هامسا في الأروقة السياسية، وظهور دحلان في خلفية المشهد يعكس نوايا غير مريحة تمهيدًا لخلافته، وما قاله «ديفيد هيرست» رئيس تحرير موقع «ميديل إيست آى» يغمز إلى مخطط يحاك في الغرف المغلقة لتهيئة دحلان لخلافة عباس، ربما يكون هذا المخطط ليس بعيدًا عن علم الرئيس عباس، ومن هنا جاء الرفض القاطع لأى مصالحة قد تتم بينه وبين دحلان، فقطع الطريق على أي وساطة بينهما، حتى لو كان الثمن فتور العلاقة بين أبومازن وبعض الدول العربية المحورية والفاعلة في المشهد الفلسطينى.