وصلتنى هذه الرسالة من الأستاذ الفاضل كمال غبريال بعنوان: التعثر فى دنيا التابوهات. أنشرها كما هى:
أذكر أنه عندما سمح السادات بالتعددية السياسية فى مصر، أننى طالعت برامج المنابر ثم الأحزاب التى نشأت أيامها، وكنت مدهوشاً من حجم التطابق بين ما سُمى يسارا ويمينا ووسطا.. كانت تلك ومازالت حالة جدب وتصحر فى الفكر والرؤى والشخصيات. كان من الواضح أنها التابوهات «المحرمات» الثلاثة «الدين والجنس والسياسة»، التى تطبق بخناقها على الفكر والخيال، وتخيم بظلالها على كل مناحى الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والسياسية.. يتحرك الإنسان هكذا كما يتحرك حيوان أسير داخل قفص بحديقة الحيوان.. الوضع بالطبع الآن أفضل بعض الشىء، ونحن نشهد خروقات وتمردات على التابوهات، رغم ما ينهال عليها وعلى أصحابها من اتهامات بالكفر والزندقة والانحلال والخيانة والعمالة وما شابه.. حيث تقوى التابوهات يتفشى الجهل ويعربد الفقر، وتتحول الحياة إلى امتداد بلا نهاية للصحارى والمستنقعات.
التابوهات قفص حديدى يسلب الإنسان «الحرية»، تلك القيمة الأثمن التى صاحبت مشوار الإنسان منذ البدائية الحيوانية إلى وصوله للتسيد على الكون.. قد تُطلب الحرية لذاتها، باعتبارها نزوعاً إنسانياً طبيعياً، يترتب على «الفردانية». وهى هكذا وبصورتها الخام غير المحكومة بشروط وقواعد يمكن أن تؤدى إلى التعارض مع «الجماعية» التى تحتاجها المجتمعات.
وقد تُطلب الحرية لفائدتها العملية، باعتبارها تتيح تفجر ملكات الإنسان الإبداعية، ما يؤدى إلى فائدة «المجموع» أو «المجتمع»، عبر تحقيق الإنسان «الفرد» لذاته. فى هذه الحالة تكون «الحرية مشروطة» وليست مطلقة كما فى الحالة الأولى، التى فيها تُطلب الحرية لذاتها. تبرز هنا إشكالية هذه «الحرية المشروطة»، من حيث ماهية هذه الشروط، ومَن هو أو هم المخولون بوضعها، كما أن ربط الحرية بفائدتها العملية يثير نفس الإشكالية حول طبيعة هذه «الفائدة».
لعل ما سبق يلقى بعض الضوء على سر هذا التباين بين نتائج دعوات الحرية فى مثل شعوب الشرق الأوسط، وبين نتائجها فى شعوب العالم الغربى، فالحرية فى ذاتها لا تصلح لأن تكون قيمة مطلقة، إلا فى حالة معيشة الإنسان منفرداً، كما كان عليه الحال فى المراحل الأولى من تاريخ الإنسان، قبل أن يبدأ فى تكوين الأسرة.
رائع ما نرصده الآن من عدم احترام الشباب للكبار ولآرائهم. قد يكون ثمن هذا عليهم وعلينا على المدى القصير باهظاً، لحرمانهم لأنفسهم من الاستفادة من رصيد خبرات الكبار بحياة هم محدثون عليها. لكن لابد من دفع هذا الثمن، فالنتيجة النهائية على المدى الطويل ستكون تغييراً شاملاً لوجه الحياة، فى شرقنا الأوسط الذى تعفن وتحلل من طول الجمود.
أرى أن صموئيل هنتنجتون فيما عرضه عن «صراع الحضارات» قد أخطأ خطأ قاتلاً فى تقسيمه لحضارات عديدة تصورها تتصارع. «الحضارة» مفهوم شامل لكامل الإنجازات البشرية، وبعيد البدايات الأولى للتحضر الإنسانى بدأ التواصل بين مختلف مراكز الحضارة الإنسانية، لتمضى المسيرة بعدها بصفتها حضارة إنسانية واحدة، تختلف ملامحها بين تلك المراكز اختلافات لا تكاد تُذكر. لكن التعدد الحقيقى والجذرى بين تلك المراكز كان التعدد والتنوع الثقافى، الذى أدى إلى اختلاف المستويات الحضارية التى استطاعت كل ثقافة تحقيقها.
الصراع هكذا ليس بين حضارات مختلفة، ولكنه بين ثقافات نجح بعضها فى صعود درجات السلم الحضارى إلى ذروته، وبين الثقافات المتعثرة فى أدنى الدرجات، أو تلك العاجزة كلياً، والمضادة للتحضر والحضارة.. التابوهات صخور تعترض مجرى نهر الحضارة الإنسانية، فتحول الحياة إلى مستنقع ترعى فيه الديدان والطفيليات، وتموت سائر مظاهر الحياة.