من صندوق البريد

نيوتن الأربعاء 01-06-2016 21:32

وصلتنى هذه الرسالة من الأستاذ الفاضل كمال غبريال بعنوان: التعثر فى دنيا التابوهات. أنشرها كما هى:

أذكر أنه عندما سمح السادات بالتعددية السياسية فى مصر، أننى طالعت برامج المنابر ثم الأحزاب التى نشأت أيامها، ‏وكنت مدهوشاً من حجم التطابق بين ما سُمى يسارا ويمينا ووسطا.. كانت تلك ومازالت حالة جدب وتصحر فى الفكر ‏والرؤى والشخصيات. كان من الواضح أنها التابوهات «المحرمات» الثلاثة «الدين والجنس والسياسة»، التى تطبق ‏بخناقها على الفكر والخيال، وتخيم بظلالها على كل مناحى الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والسياسية.. يتحرك ‏الإنسان هكذا كما يتحرك حيوان أسير داخل قفص بحديقة الحيوان.. الوضع بالطبع الآن أفضل بعض الشىء، ونحن ‏نشهد خروقات وتمردات على التابوهات، رغم ما ينهال عليها وعلى أصحابها من اتهامات بالكفر والزندقة والانحلال ‏والخيانة والعمالة وما شابه.. حيث تقوى التابوهات يتفشى الجهل ويعربد الفقر، وتتحول الحياة إلى امتداد بلا نهاية ‏للصحارى والمستنقعات‎.‎

التابوهات قفص حديدى يسلب الإنسان «الحرية»، تلك القيمة الأثمن التى صاحبت مشوار الإنسان منذ البدائية الحيوانية ‏إلى وصوله للتسيد على الكون.. قد تُطلب الحرية لذاتها، باعتبارها نزوعاً إنسانياً طبيعياً، يترتب على «الفردانية». وهى ‏هكذا وبصورتها الخام غير المحكومة بشروط وقواعد يمكن أن تؤدى إلى التعارض مع «الجماعية» التى تحتاجها ‏المجتمعات.‏

وقد تُطلب الحرية لفائدتها العملية، باعتبارها تتيح تفجر ملكات الإنسان الإبداعية، ما يؤدى إلى فائدة «المجموع» أو ‏‏«المجتمع»، عبر تحقيق الإنسان «الفرد» لذاته. فى هذه الحالة تكون «الحرية مشروطة» وليست مطلقة كما فى الحالة ‏الأولى، التى فيها تُطلب الحرية لذاتها. تبرز هنا إشكالية هذه «الحرية المشروطة»، من حيث ماهية هذه الشروط، ومَن ‏هو أو هم المخولون بوضعها، كما أن ربط الحرية بفائدتها العملية يثير نفس الإشكالية حول طبيعة هذه «الفائدة».‏

لعل ما سبق يلقى بعض الضوء على سر هذا التباين بين نتائج دعوات الحرية فى مثل شعوب الشرق الأوسط، وبين ‏نتائجها فى شعوب العالم الغربى، فالحرية فى ذاتها لا تصلح لأن تكون قيمة مطلقة، إلا فى حالة معيشة الإنسان ‏منفرداً، كما كان عليه الحال فى المراحل الأولى من تاريخ الإنسان، قبل أن يبدأ فى تكوين الأسرة.‏

رائع ما نرصده الآن من عدم احترام الشباب للكبار ولآرائهم. قد يكون ثمن هذا عليهم وعلينا على المدى القصير باهظاً، ‏لحرمانهم لأنفسهم من الاستفادة من رصيد خبرات الكبار بحياة هم محدثون عليها. لكن لابد من دفع هذا الثمن، ‏فالنتيجة النهائية على المدى الطويل ستكون تغييراً شاملاً لوجه الحياة، فى شرقنا الأوسط الذى تعفن وتحلل من طول ‏الجمود‎.‎

أرى أن صموئيل هنتنجتون فيما عرضه عن «صراع الحضارات» قد أخطأ خطأ قاتلاً فى تقسيمه لحضارات عديدة ‏تصورها تتصارع. «الحضارة» مفهوم شامل لكامل الإنجازات البشرية، وبعيد البدايات الأولى للتحضر الإنسانى بدأ ‏التواصل بين مختلف مراكز الحضارة الإنسانية، لتمضى المسيرة بعدها بصفتها حضارة إنسانية واحدة، تختلف ملامحها ‏بين تلك المراكز اختلافات لا تكاد تُذكر. لكن التعدد الحقيقى والجذرى بين تلك المراكز كان التعدد والتنوع الثقافى، الذى ‏أدى إلى اختلاف المستويات الحضارية التى استطاعت كل ثقافة تحقيقها.‏

الصراع هكذا ليس بين حضارات مختلفة، ولكنه بين ثقافات نجح بعضها فى صعود درجات السلم الحضارى إلى ‏ذروته، وبين الثقافات المتعثرة فى أدنى الدرجات، أو تلك العاجزة كلياً، والمضادة للتحضر والحضارة.. التابوهات ‏صخور تعترض مجرى نهر الحضارة الإنسانية، فتحول الحياة إلى مستنقع ترعى فيه الديدان والطفيليات، وتموت سائر ‏مظاهر الحياة.‏