كثيرا ما تسألون عن الدور الاجتماعى للفنان؟ مع الأسف غاب هذا الدور عن أغلب نجومنا الذى أصبحوا مثل الكائن (الأنوى)، كما وصفه كاتبنا الكبير أحمد رجب فى مسلسله الرمضانى الذى صار فيلما شهيرا (شنبو فى المصيدة) واكتشفنا فى النهاية أنها كلمة بلا معنى، تتابعون التراشق بالمليون ومضاعفاتها التى يحصلون عليها كأجور ويتنابزون فيما بينهم بمن حطم الأرقام تحطيما، ومن سيحصل مسلسله على القضمة الأكبر من الإعلانات،إلا أنهم مهما حققوا من نجاح استثنائى فإن إسماعيل يس كان ولا يزال هو الاستثناء، حتى بحساب الأرقام، فلا يزال أطفال هذا الزمن يُضحكهم (سُمعة) مثلما كان يُضحك منذ ثلاثينيات القرن الماضى جدودهم وجدود جدودهم لنكتشف أنه صاحب ضحكة بحق وحقيقى عابرة للأجيال.
قد يبدو ربما بنظرة سريعة أن إسماعيل يس فقط مضحكاتى له (شلاضيم) كثيرا ما تغنى بها، إلا أن هذا الفنان الذى بدأ حياته «مونولوجيست» يغنى فوق سطوح العمارة فى الأفراح والناس تنتظر منه أن يقول لهم آخر نكتة، قد أنهاها أيضا ولكن فى شارع الهرم بعد أن أنهكه المرض وكثيرا ما كان يستمع إلى استهجان الجمهور وهو يقول له قديمة يا سمعة، وهى أقسى كلمة من الممكن أن ينالها فنان على خشبة المسرح.
ورغم ذلك فإن ما يعيش معنا حتى الآن هو ما قدمه إسماعيل يس وبه العمق الاجتماعى، هكذا رأينا القوات المسلحة المصرية تستعين به بعد ثورة 52 لكى يحث الشباب على الالتحاق بالقوات المسلحة لنبنى جيش مصر القوى، كانت سلسلة الأفلام الكوميدية التى أخرج أغلبها فطين عبدالوهاب مثل إسماعيل يسن فى الجيش والطيران والأسطول وغيرها، هذه الأفلام التى تبدو للوهلة الأولى مجرد حالة هزلية تجمع بين إسماعيل والشاويش عطية (رياض القصبجى) إلا أنها لعبت دور البطولة فى خلق روح ثورية، ظلت الدولة تدرك أن إسماعيل يس ورقة رابحة حتى الستينيات وكان قريبا جدا من مشاعر الرئيس جمال عبدالناصر وابنه الوحيد يسن كان صديقا أيضا لخالد ابن جمال عبدالناصر، ولهذا لم تتوقف الدولة عن الاستعانة به فى تحقيق الكثير من أهدافها، حيث إن الرئيس جمال عبدالناصر كان يذكر فى مجالسه مثلا بأريحية، كيف أنه عندما ذهب لزيارة المملكة المغربية أثناء تولى محمد الخامس الحكم، منتصف الخمسينيات، فوجئ بأن هناك من يقتحم الموكب ويوصيه بمجرد عودته لمصر أن يسلم له على إسماعيل يس، ولهذا مثلا أثناء حرب اليمن ضد الإمام أحمد ومع بداية إعلان الجمهورية كانت هذه الواقعة وبتكليف أيضا من القيادة السياسية .
كلنا نعلم أن أسم (القات) صار مرادفا للشعب اليمنى مثلما صارت كلمة السعيد مرتبطة باليمن، ولكن هل من الممكن أن تتوافق السعادة مع كل هذا الخضوع والرضا الاجتماعى بالتعاطى اليومى لنبات مخدر، يحيل الجميع إلى بشر خارج الحياة.
قبل يومين استمعت إلى تسجيل نادر لإسماعيل يس فى حفل أقامته الإذاعة المصرية فى اليمن احتفالا بعيد الثورة الثانى اليمنى عام 1964، وأيضا تصادف ذكرى مرور 44 عاما على رحيله، قدم مذيع الحفل إسماعيل باعتباره نجم العالم العربى الأول فى الكوميديا وبالفعل كان ولا يزال «سُمعة» يتمتع بتلك المكانة، وقبل أن يبدأ فقرته ووسط حفاوة جماهيرية غير مسبوقة، أحالها الصوت المنبعث من الراديو من فرط صدقها إلى صورة، قال إسماعيل يسن للآلاف إنه التقى الرئيس اليمنى المشير عبدالله السلال فى مسكنه ووجده بيتا متواضعا، وسأله لماذا لا تسكن فى قصر؟ أجابه احنا أقمنا الثورة عشان الشعب اليمنى يسكن فى القصور وليس من أجل أن يسكن رئيس الجمهورية فى القصر، وأضاف سُمعة أنه يوجه رسالة إلى اليمن كلها رافضا حكاية التقسيم بين شمال وجنوب، وكان قد سبقه بالغناء محمد قنديل برائعته «وحده ما يغلبها غلاب» التى كتبها بيرم التونسى ولحنها باقتدار وروعة عبدالعظيم عبدالحق وبها هذا المقطع «أنا قاعد فوق الأهرام وقدامى بساتين الشام فكان يغيرها إلى «وقدامى تعز والشام» أو «صنعاء والشام» و«عدن والشام» مؤكدا الوحدة بين شطرى اليمن.
وبينما اكتفى قنديل بالغناء للثورة والوحدة، فإن إسماعيل يس بكل جرأة انتقد تعاطى القات، وهى قضية شائكة وحساسة ولكن نجومية إسماعيل يس سمحت له بذلك، مأزق القات أن الشعب تقريبا كله يتعاطاه يوميا، وهناك رضا وغطاء اجتماعى لا يرى أى ضرر بل هو يوحد اليمنيين فى توقيت محدد يبدأ من الواحدة ظهرا ويمتد إلى ماشاء الله.
القات مادة مخدرة لم يجرؤ أى حاكم يمنى عبر التاريخ على مواجهته،الغريب أنهم تقبلوا ذلك من إسماعيل يسن. كل رؤساء اليمن السابقين يعتبرون القات هو «الذهب الأخضر» لأنه يضمن لهم شعبا مستسلما كسولا، الأراضى الزاعية فى اليمن السعيد تتقلص فيها مساحات زراعة البن والفواكهة والخضراوات لصالح القات لأنه يُدر أموالا أكثر، آفة تهدد شعبا بأكمله وتمنعه من الحياة الطبيعة.
داخل اليمن هناك من يقاوم، وتوجد جمعيات توعية تتصدى لكنها تُقابل برفض من الدولة وقبل ذلك بثقافة شعبية ترى فى القات وتعاطيه عادة حميدة، خاصة مع انتشار البطالة فى اليمن فما الذى يفعله الشباب سوى جلسات القات.
شاهدت عشرات من أفلام تسجيلية يمنية تناولت الثورة وبعضها وصل لحدود الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى، ووجدت فيها إصرارا على التغاضى عن القات، ترى الثوار أو جزءا وافرا منهم وهم يمضغونه داخل الخيم وهم يدخنون الشيشة، وكل منهم لديه صدغ متورم بفعل المساحة التى يحتلها القات فى فمه، مما يجعلك تتشكك فى جدوى الثورة التى يقودها مغيبون.
لماذا لا نسمع أصواتا ترفض؟ لأن الكل يريد إرضاء الشعب، الدولة التى تتعرض لخطر اجتماعى يجب أن يظهر من بينها قائد يتصدى، مثلما حدث فى الصين وحرب الأفيون التى نجحت فى التخلص من هذا الإدمان فى مطلع القرن الماضى، صحيح أن مخاطر الأفيون لا تقارن أبداً بالقات الأقل ضررا، ولكن لا أحد ينكر خطورته.
كل الثورات التى قامت بداية من تلك التى قادها عبدالله السلال فى مطلع الستينيات والتى لعبت مصر دورا محوريا فيها، لم تقترب من تلك المنطقة الشائكة ولكن فعلها نجم العالم العربى الأول إسماعيل يس، ستصمت المدافع وتخرس كل دعاوى الفرقة عندما يدرك هذا الشعب العظيم كم كان يحبه «سمعة» الذى كان يدرك أن على الفنان أن يلعب دورا اجتماعيا يتجاوز حتى حدود بلاده، فهل يستعيد نجومنا الدرس (الكلام إلك ياجارة))!.