إذا كان بمقدورك أن تذهب أبعد وتغوص أعمق فلماذا لا تفعل؟ قلت لنفسى ذلك وأنا أهم بالكتابة عما أُسميه «جزر التقدم والرحمة» بعد أن تلامست مع اثنين منها فى يوم واحد بمدينتى «المنصورة». ووجودى فى المنصورةــ بحد ذاته ــ يجعلنى مشحوذا لاستقبال الأبعد والأعمق، مما يجعلنى أُصدِّق تماما أن عقل الإنسان يكون فى أفضل حالاته عندما يكون صاحبه فى المكان الذى نشأ فيه، وهذا مما يؤكد عندى معنى «الوطن» كحقيقة روحية، ونفسية، وعضوية، إضافة للتأكيدات التى يجهر بها سلوك مختلف الكائنات الحية والتى قدَّمْتُ، وسأستمر فى تقديم، مآثر وعجائب ومُعجزات ارتباطها بأوطانها، التى تحرص أن تتزاوج فيها، وتنجب فيها، ثم فيها راضية تموت. مما يجعلنى قاطعا فى رفض خزعبلات تلاشى الدول الوطنية تحت حوافر وأظلاف التطلعات الخيلائية إلى أوهام الإمبراطورية والسلطنة والقيصرية والخِلافة والعولمة وغيرها، وقد زالت جميعا وستزول كلما حاولت العودة، لتبقى الأوطان حقيقة دمٍ ولحمٍ وحسٍّ وروح، وثقافة، نعم ثقافة!
جزر رحمة توالى البزوغ
بدأت الحكاية منذ 24 عاما، عندما هجرت الطب عام 1992 مُلتحقا بمهمة المحرر العلمى لمجلة العربى العروبية الكويتية الثقافية العريقة. وكان أول ما فكرت فيه أن أُجرى استطلاعات مصورة داخل كيانات يكون العلم فى قلبها ويضىء ما يحيط بها من واقع، وبديهيا اخترت البدء بمركز الكلى عالمى المستوى والإنجاز فى المنصورة والذى أسسه العظيم العجيب النادر الدكتور محمد غنيم، وكان أن أوحت لى مأثرة المكان فى واقع أعرف أوجاعه جيدا بتسميته «جزيرة الرحمة». والآن، بعد 24 عاما، أرى أن ظهور جزيرة الرحمة الأولى هذه، تسبَّب فى بزوغ ما يجاريها من مراكز ومستشفيات متخصصة رفيعة المستوى، وقد تنقلت خلال ساعتين بين اثنتين من جزر الرحمة هذه، أولاها مركز جراحة الجهاز الهضمى الذى ذهبت أزور فيه ابنا عزيزا نابغا أُجريت له جراحة دقيقة استبعَدَت أشد مخاوفنا عليه والحمد لله. وقد سرنى تشديد شروط الدخول تبعا لتعليمات مدير المركز الدكتور أيمن فؤاد وامتثلت مُستبشرا بتوقيفى عند البوابة لحين التأكد من إمكانية الزيارة طبقا لوضع من أزوره. وبعد انتهاء زيارتى فى هذا الصرح الذى يشغل مكانا متقدما بين نُظرائه فى العالم، ذهبت مدعوا من الأستاذ الدكتور جمال شيحة للتعرف على مستشفى ومعهد الكبد المصرى الذى أسسه فى قلب ريف الدلتا على طريق شربين دمياط، ووجدته أيضا كما يوصف عن جدارة أحد مراكز الكبد العلاجية والبحثية والتعليمية المتقدمة فى العالم. والمدهش أنه أحد تجليات العمل الأهلى الناهض على تبرعات الطيبين، فليس «المجتمع المدنى» وقفا على المراكز الحقوقية التى أنزه بعضها، ولا أستطيع تنزيه البعض الآخر!
جزر الرحمة الطبية عالمية المستوى الرفيع والمتقدم هذه، وبينما أنا مشحوذ الحس والخواطر فى موطن أول أنفاسى وأرض نشأتى وصباى، بل زهرة عمرى الحار الحقيقية، لم تجعلنى أفكر بالطريقة التى كنت أفكر بها منذ أربعة وعشرين عاما، أى أن أكتب تحقيقا يبرز دقائق وإنجازات وممارسات هذه المآثر الطبية المرموقة، وهذا أمر لم أعد قادرا على القيام به، ولا راغبا فيه، وإن كنت سأُحرِّض عليه وأُساهم بالاقتراح والمشورة كلما تطلب الأمر ذلك. الجديد هو أننى وقد انغمست فى التأرُّق بالشأن العام بما يتضمنه من يومى وميدانى، سياسى بالضرورة، والذى آمل أن أتناءى عنه لفرط ما بات مُحزنا ومؤذيا وكذوبا، صرت مطبوعا على رؤية الأمور فى مُحيطها الأوسع، بما توحى به من أفكار، وبما تكشفه من تناقضات، بما تقترحه من حلول لمآزق، وبما تعد به أو يتوعدها فى الأفق. وقد كان هذا كله ماثلا فى انتباهات زيارتى لهاتين الجزيرتين الرحيمتين، المتقدمتين.
مفارقة التقدم مع التخلف
وأنا أغادر مركز جراحة الجهاز الهضمى، انتبهت بأكثر من أى مرة سابقة إلى واقع الشارع الذى يقع به هذا المركز، والمدعو «شارع جيهان»! فهذا الشارع الذى يخطو فيه الذاهب إلى مركز طبى ينتمى إلى العالم المتقدم، لا يعدو أن يكون شارعا نمطيا من شوارع الدنيا المتخلفة، وأرجو ألا يجزع أبناء مدينتى من هذا الوصف، فحبهم لها لا يزيد عن ولعى بترابها، إنما هى الحقيقة الموجعة، فهو شارع مدهوس بزحام خانق لفوضى مرور المركبات والمشاة، ومطروس الأرصفة لحد الإعاقة بالقاعدين أو المُقعدين عليها، إضافة للإشغالات التى ألغت فعليا، على جانبيه، حق المشاة فى بلوغ غاياتهم الطبية المتعددة بيُسر فى هذا الشارع المضطرب بالزحام والمُعبَّأ بالغبار!
ما معنى هذا التناقض؟ وما هى مآلاته؟ هل ينتصر نموذج المركز الطبى المتقدم على فوضى وتخلف الشارع؟ أم يتسرب ما فى الشارع إلى قلب المركز؟ أسئلة لا تخص هذا التناقض الصغير فى ركن من أركان مدينة مصرية، بل ينسحب على التناقض الكبير بين جُزر مصرية متقدمة فى بحر من التخلف الهادر، الذى علينا أن نعترف بوجوده إن كنا نريد حقا تجاوزه.
التناقض نفسه بين جزيرة متقدمة فى واقع متخلف تَكرَّر بصُدفة غير متوقعة عايشتها فى «موقف سيارات طلخا الجديد» الذى قصدته لأستقل ما ينقلنى إلى مستشفى ومعهد الكبد على طريق المنصورة شربين دمياط. كان مدخل موقف سيارات الأجرة مسدودا بكتلة من تجمهر بشرى يصطخب فيه الناس ويدورون حول مركز لم أستطع تبين ما يحدث فى قلبه لأن كتلة المتزاحمين كانت تتضاغط متكاثفة بينما رفعت مئات الأيادى عند الأطراف «الموبيلات» تصور ما يحدث فى المركز، وتكشف عن شدة شهوة التصوير والتشيير التى باتت علامة جديدة على المشاركين فى التجمهر كمشاهدين، حيث تذهب بعض الدراسات النفسية إلى التعامل مع التجمهر كحالة مسرحية، تنقسم إلى فاعلين أساسيين يقومون بالأدوار الرئيسية كمحرضين، ومُشاركين ثانويين يدعمون هذه الأدوار بالفرجة المتماهية مع ما يتابعونه.
رحت أسأل عن سر هذا التجمهر، وكانت الإجابات المتناثرة تقول بأن «سائق سيارة أجرة قادم بركاب من القاهرة كان متوقفا أما البوابة يُنزل ركابة (وهذا غير قانونى) وأتت سيارة ملاكى مسرعة من الخلف (وهذا غير قانونى أيضا) فضربت مؤخرة السيارة الأجرة وهشمتها. وعندما نزل سائق الأجرة ونزل سائق الملاكى تلاسنا، واشتبكا (وهذا غير قانونى كذلك) فانهال سائق الملاكى الذى تبين أنه ضابط شرطة فى ملابس مدنية ضربا على السائق ثم أخرج طبنجته وظل يضرب بكعبها الحديدى دماغ السائق حتى سقط على الأرض هامدا غائبا عن الوعى (وسنعرف الحقيقة حالا).
مسرح خارج القانون
توقعت أن أشهد حريقا جديدا من حرائق النقمة على الشرطة يشتعل وربما يشعل المدينة كلها. ومع حراك كتلة التجمهر مثل مجرة حلزونية تدور حول نفسها منزاحة هنا وهناك برز فى مركزها ضابط شرطة فى زيه الرسمى برتبة نقيب، نحيف متوسط الطول ويضم إليه رجلا عرفت أنه سائق الأجرة المضروب. وعرفت أن النقيب هو ضابط نقطة شرطة الموقف، يحاول تهدئة غضب المتجمهرين وإقناع السائق بالذهاب معه إلى النقطة لعمل محضر ضد من يتهمه بالاعتداء عليه وأخذ حقه بالقانون. فيما كان عشرات من المتجمعين الغاضبين ممتقعى الوجوه (من القائمين بالأدوار الرئيسية فى مركز التجمهر) يرفضون ذهاب السائق صارخين «لو مشى من هنا مش هاياخد حقه. لو مش هاياخد حقه».
ارتقى الضابط النقيب رصيفا فبرز وسط كتلة المتجمهرين وهو يحتضن إلى جانبه السائق وراح يخاطب الجمع بانفعال وبصوت مرتفع يدفع بالدم إلى وجهه الحنطى: «إيه ياجدعان. حرام عليكم. عايزين تولعوها ليه؟ عايزين تخربوها ليه؟ خلونا نشوف شغلنا وانتوا شوفوا شغلكم. والله هاياخد حقه. كل واحد هاياخد حقه بالقانون». ولم يستمر النقيب ومعه السائق فى المرتفع فقد شدت مجموعة المتجمهرين (الرئيسيين) السائق ومعه النقيب إلى أسفل فاختفيا فى دائرة الزحام.
توسعت الدائرة فانفرج مركزها عن مشهد من نوع «الماستر سين» يرتفع إلى الذروة المسرحية ويكرر نفسه، حيث ينجح عشرات من أفراد التجمهر الأكثر حماسا أو هياجا فى انتزاع السائق من النقيب ويفسحون فى قلب الدائرة حلقة بعرض بوابة الموقف ممددين السائق على أرضها فيستلقى مغمضا عينيه ويبدو غائبا عن الوعى، بينما تصدح من حوله جوقة الرئيسيين الهائجين «مش هايتنقل من هنا. لو مشى حقه هايضيع». ويندفع النقيب آخذا بيد السائق المتمدد مغمضا ويرفعه إليه فينهض فاتحا عينيه فيما النقيب يصرخ فيه متوسلا ليسمعه» تعالى معايا. والله هاتاخد حقك. والله هاتاخد حقك. ويتكرر المشهد.
تملكنى حِسٌ درامى وأنا أتابع هذه الذروة المشهدية فى العرض الحى أمامى، وصرت أكثر تعاطفا مع النقيب الذى رأيته يغامر حرفيا بحياته فى محاولة إخماد الحريق فى مهده، فتبعا لدراسات سيكلوجية الحشود الهائجة، لو حدث أن امتدت إلى هذا النقيب يدٌ فالتة من قلب الزحام، بزغدة أو حتى لمسة، لتداعت وراءها مئات الأيادى ولحقت بها مئات الأقدام وتم الفتك بهذا الشاب النحيف الذى انفعلتُ بمغامرته الجريئة إلى حد محاولتى شق الزحام، عبثا، والوصول إليه ومؤازرته لكسر حالة «التداعى المسرحى» فى هذا التجمهر باقتحام عنصر مفاجئ يربك تفاقم المشاهد ويؤجل الانزلاق إلى العنف، خاصة وقد كنت محروق القلب لنحر ثمانية أفراد شرطة بينهم ضابط شاب، غدرا، برصاص حثالة من القتلة عند حلوان صباح اليوم نفسه.
كيفية لَم الدور
كان واضحا أن السائق لم يكن ينزف دما ولا تظهر عليه كدمات من تهشمت رأسه بكعب الطبنجة، لكنه كان غارقا فى عَرقِه وقد تشعث وتغبَّر من جذب الأيادى وتمديده على الأرض غافيا ثم إنهاضه حائرا! وفجأة تغير المشهد بحدوث إزاحة كبيرة لكتلة التجمهر التى أخذت تتحرك إلى داخل الموقف متوجهة إلى نقطة الشرطة فيما كانت تتخلخل ويخف فيها الزحام، وعرفت أن مدير الأمن قد جاء بنفسه و«لَمْ الدور»! هذا هو التعبير الذى سمعته إجابة على تساؤلى عن سر إنهاء حالة التجمهر، أو.. اختتام العرض!
بعد رصدى لمفارقات ذلك اليوم، بين جُزر متقدمة فى بحر يموج بكثير أو قليل من التخلف. مكثت أُسائل نفسى: لماذا استطاعت هذه المراكز الطبية التى ذكرتها أن ترتفع فوق تخلف الواقع من حولها لتمضى رأسا برأس، أو تكاد، مع مثيلاتها فى العالم المتقدم؟ وكانت الإجابة واضحة: إنها سيادة القانون! وهى هنا تطبيق شروط، مُحدِّدات، نُظم، ونتائج دراسات وأبحاث العمل الطبى المتقدم فى البلدان المتقدمة، وبصرامة تزدرى أى تنازل لروح التخلف أو ضغوط مستفيديه. وبلغة أخرى: التحرى الدقيق للحقائق العلمية والهدف المُراد بلوغه فى تخطيط وإنشاء وتسيير كل مرفق مما ذكرت، فكانت جُزر تقدم ورحمة. وهذا بالضبط، وبطريقة معكوسة، يكشف عن سر التخلف المُحدق بهذه الجزر. فغياب «القانون» أو تغييبه أو التلاعب به فى تخطيط وتسيير منشآت المجتمع، أو تجاهل تنظيم مجالات النشاط البشرى فى خضمه، هو الذى يصنع حالة التخلف. ولا مفارقة لهذا التخلف- قل أو كثر ــ إلا بإعمال سيادة قانون عادل وبصير ومنطقى وصارم، لتوسيع رحاب جزر التقدم فى كل مناحى حياتنا، من الشوارع، إلى المزارع، المصانع، المستشفيات، وحتى مواقف السيارات والطرق التى تسير عليها هذه السيارات ويسير البشر، لا بمعنى الإنشاءات فقط، بل الأهم: قوانين السير المُنظِمة والضابطة للحركة، ولو على السِكك القديمة.
وما دمت قد استخدمت معنى «الجُزُر» فيما تحدثت عنه، أجدنى لا أستطيع مغادرة هذه السطور إلا بأن أبدى رأيا مُناظِراـ بمنطق العلم أيضاـ فى موضوع جزيرتى تيران وصنافير، خارج هيجاء تطبيل البعض وتربص غيرهم ونفاق الحواة الذين استُدعوا من التقاعد لتقديم حيلهم البالية، فطبقا لـ «قوانين» احترام البيئة الفطرية التى يُثمِّنها علم تآزر مكونات شبكة الحياة «الإكولوجى»، أقول بأن أصحاب الجزيرتين هم سكانها الأصليون؟ هم الكائنات البحرية فى محيطهما المائى، والأحياء الدقيقة وغيرها على صخورها ورمالها، والنباتات البرية مهما كانت نادرة، وهذا يعنى إعلاء أمانة الحفاظ على هاتين الجزيرتين كمحميتين طبيعيتين تعززان التنوع الحيوى Biodiversity الحامى لسلامة البيئة بأبعد وأفيد مما يتصور السياسيون البرجماتيون، وطبيعى أن يكون واجب ذلك الحفاظ على البيئة منوطا بالأقربين، ونحن أقرب إلى تيران، على الأقل!
إمكانية الارتفاع برغم الاتضاع
ولا يفوتنى التنويه أن جزر التقدم التى أعنى، ليست وقفا على ما ذكرته، فهناك عديد مثلها فى أماكن أخرى منها مركز مجدى يعقوب للقلب فى أسوان على سبيل المثال الأشهر، كما أن هناك جُزرا أخرى صناعية وزراعية ارتقت على أسس «قانون» الشروط العلمية ودراسات الجدوى المُعمَّقة لكل منها، فاستطاعت أن ترتفع فوق غمر محيطها وتنال شهادات جودة عالمية لمُنتجات تُضاهى مثيلاتها فى العالم المتقدم مما أهلها لدخول أسواق دول الشمال الغنى والمتقدم. وهذه على محدوديتها تشكل قاعدة واعدة يمكن البناء عليها، وتواسينا بحقيقة أننا برغم مساحة التخلف الواسعة فى مجتمعنا، لسنا مضطرين للبدء من الصفر، إذا تحرَّينا شروط ارتقاء هذه الاستثناءات وكررناها فى إبداع جُزر جديدة، وتكثيرها حتى تتقارب وتتلاحم لتصير أرضا رحبة وصلبة تتكسر على شطآنها موجات التخلف. وهذا ممكن لو أردنا بجد، وبرغم الأسى الذى لا يكف عن مباغتتنا بملامح التخلف، بل الانحطاط أحيانا..
آخر مباغتتات ذلك الانحطاط، تمثلت فى واقعة قرية «الكرم» بالمنيا، والتى كانت ذروتها مهاجمة مجموعة من البهائم البشرية لسيدة مسيحية واستباحتها، سواء بالتعرية والسحل كما تذهب بعض الإفادات أو بمجرد تمزيق ثيابها والاعتداء عليها وترويعها، حيث لم تنقذها غير مروءة سيدة مسلمة آوتها فى دارها وسترتها بثيابها وهرَّبتها من دهْم البهائم. وأنا ألح على استخدام هذا الوصف الذى يبدو قاسيا، ليس فقط للتعبير عن الامتعاض من صنيعهم الوضيع، مهما كانت دوافعه، ولكن لأن هذا الوصف يستخدمه علم النفس لتجسيد تردى الفرد الإنسانى داخل حشد الغوغاء الهائج، ليصير بهيمة بشرية Human beast، يتحرك بنفسية القطيع Herd psycology فاقدا تفرده الإنسانى ووعيه الذاتى، ومُتحولا إلى «إمعه» يحركه مُهيجو القطيع تبعا لنظرية «الإمعية» Deindividuation theory فى دراسات علم النفس الاجتماعى لسلوك الحشد الغوغائى، الذى يكون أشبه باندفاعات قطيع الحيوان، مع ملاحظة أن الحيوان لا ينخرط فى هذا السلوك الغريزى إلا بحثا عن نجاة من خطر يهدد حياته، أما الإمعة فى القطيع البشرى الهائج فهو لا يندفع التماسا لصون الحياة، بل يهرول فى عدوانية عمياء تهتف للموت!.
واجب الوقت سيادة القانون[image:7]
ولمناسبة هذه الافتراق بين صون الحياة والهتاف للموت، حدث أن حضرت قبل يومين من كتابة هذه السطور فعالية محاضرة وجائزة أستاذنا الدكتور أحمد عكاشة السنوية الثانية والعشرين، وقد أثلج صدرى فوز باحثتين شابتين بجائزة هذا العام. أما المُحاضِر فقد كان الدكتور على جمعة متحدثا عن «فقه حب الحياة»، وقد كانت محاضرة مُبهرة، أعادت عندى اكتشاف الدكتور على جمعة كعالم رحب الأفق غنى المعرفة وبليغ العبارة وشجاع، فأدركت لماذا كان الدهماء ولايزالون يصرون على تشويهه، فهو نموذج يفضح عتامة وغوغائية شمحطية مُدَّعى الدعوة الذين لاتزال أمتنا تمضغ حُصرم جهالتهم وجلافتهم. وقد خرجنا من المحاضرة بيقين روحى وعقلى أن ديننا الحنيف الرائع يحلق بجمالات بالغة السمو فى حب الحياة، مُعارضةً ماحقةَ لتخرصات عَبَدة الموت وتُجاره، الذين شوهوا الدين والدنيا بدمويتهم وأكاذيب نفوسهم المعتمة التى لا أراها إلا «نيكروفيلية» مريضة بعشق الجثث والولع بالخراب والنفايات، وراء أستار تسويغهم للقسوة والتكفير والعنف والتعصب،وبتأويلات لا أنزل الله بها من سلطان.
ولكن، بقدر ما أرى هذا التنوير الثقافى الدينى مُهِمَّا، بقدر ما أراه «استراتيجية» بعيدة المدى بطيئة المردود، قليلة الأكفاء من جنودها الأزاهرة المتنورين. والواقع المُحتدم لن ينتظر الجانح حتى يتنوَّر ويعود عن إظلامه، خاصة وهذا الإظلام يتحول إلى تدمير عدوانى جنائى نعيشه يوميا، وهذا لا يردعه إلا القانون، والقانون الذى أعنيه هو العدل الذى يُطبَّق على الجميع، موالين كما معارضين، فلا سيادة لقانون يطبق ــ كمثال قريب ــ بحسم وسرعة وقسوة على شبان أعلنوا رفضهم السلمى لمجريات قضية الجزيرتين المُباغِتة، بينما غيرهم من الموالين بفجاجة يُفلتون من القانون برغم ارتكابهم لجرائم مفضوحة على رؤوس ملايين الأشهاد، فلا ارتقاء على وهاد التخلف ولا صعود لجُزر الرِفعة، إلا باحترام روح القوانين فى كل شأن من شؤون حياتنا، حكاما ومحكومين.
ملاذ الثقافة الثالثة
هذا، وأستسمح جميع من يُحسنون الظن بى وأقدِّر مودَّتهم، أن يقبلوا اعتذارى الشامل عن أى دعوة لأى فعالية رسمية أو غير رسمية، داخلية أو خارجية، تُخرجنى عن إيقاع عالمى الصغير وسياقى الذى رسمته لنفسى فيما تبقى لى من طاقة ووقت، لأكون مُستقلا تماما كقارئ وكاتب، مُكرِّسا جهدى لما يُسمَّى «الثقافة الثالثة» التى تمزج بين ثقافة العلم والإنسانيات وضمنها الأدب. ذلك لأننى صرت على قناعة تامة بأن تعلقى باليومى والميدانى وتعليقى عليه، يجعلنى مُعرَّضا لارتكاب أخطاء أكثر، لفرط ما يختبئ فى هذا اليومى والميدانى من التواء وخداع، وتلاعب فاحش بروح القوانين من معظم أطراف «اللعبة» السياسية، وهذا أمرٌ مدمِّرٌ لروحى بما يُطلقه من طاقة سلبية لم أعد أقوى على احتمالها. وسأكون للمتفهمين من الشاكرين.