مقال مثير جدًا

مي عزام الإثنين 30-05-2016 21:35

تربطني علاقة من نوع خاص بالنجمة الفرنسية الأسطورية بريجيت باردو، فقد ترجمت مذكراتها قبل سنوات، وانغمست في تفاصيل حياتها، واندهشت من أسباب محاولاتها المتكررة للانتحار، وفكرت بعمق في أسرار تقلباتها العاطفية والفنية، وفتشت كثيرا عن الأسباب الحقيقية التي دفعتها إلى اتخاذ قرار اعتزالها المفاجئ، ثم اهتمامها المبالغ فيه برعاية الحيوانات، وهي النقطة التي طردت من رأسي كل الأفكار السياسية التي كنت أستعد لكتابتها في هذا المقال.

فقد شاهدت مصادفة حوار الإعلامية منى الشرقاوي مع النجم الفرنسي آلان ديلون، وعلى الرغم من أن ديلون لم يكن نجمي المفضل في مرحلة الصبا والمراهقة مثل كثيرات من بنات جيلي، إلا أنني من المعجبات الثقافة الفرنسية عموما، ليس بحكم دراستي وفقط، ولكن بحكم اقترابها من وجداني وطريقتي في الحياة والنظر للأمور، وفي الحوار وجهت منى سؤالا لديلون عن بريجيت باردو، فأجاب الإجابة التقليدية عن صورتها كأسطورة للحرية الجنسية في العالم، ووتحدث عن صداقة فنية قديمة، مشيرا إلى اعتزال باردو واهتمامها برعاية الحيوانات، وقال إن هذا الاهتمام كان من أهم الدوافع التي حفظ حياة باردو، فلم تنتحر مثل داليدا ومثل أخريات انهارت قدرتهن على الاستمرار السلمي في الحياة، فتحولت نهايتهن إلى مأساة درامية.

إجابة ديلون تكشف حجم الأعباء التي تعاني منها الكائنات البشرية التي تعيش تحت الضوء، من مشاهير الفن والرياضة والأزياء إلى مشاهير السلطة، فالحياة المكشوفة للشخصيات العامة مرهقة للغاية، وتحتاج إلى دعم نفسي، وتأهيل ثقافي، ودروع قوية لعدم السقوط في غواية الفساد أو شهوة التملك والاستبداد.

إجابة ديلون قدمت وجهي العملة لبريجيت باردو، وهو الأمر الذي توافق مع علاقتي بالسيرة الذاتية للنجمة المثيرة للجدل، كما كانت مثيرة لجيل الستينيات جسديا وذهنياً، فقد تعرفت من سيرتها الذاتية على أدق الاعترافات الأنثوية التي تحدثت عنها بريجيت بجرأة وصراحة مذهلة، كما تعرفت على مرحلة الانتقال العاصفة التي قطعت خلالها اصعب مشوار في حياتها للخروج من مستطيل الضوء المبهر إلى هدوء الظل، ومحاولة البحث عن حضور مختلف، واستقرار عائلي مختلف، وهدف إنساني مختلف تنتظم عليه حياتها الجديدة بعد انفلات السنوات الأربعين الأولى، حيث تصبح المرآة صديقة جارحة، ويزداد الخوف من زحف التجاعيد على البشرة الناعمة، وتعلو أصوات الشجار مع المصورين، وتتوتر العلاقة مع المنتجين والمخرجين، ويزداد الزمن وطأة، لكن بريجيت نجحت بقوة بالغة في التخلص من كل هذه المخاوف من دون أن تختفي اختفاء جريتا جاربو، أو تتعرض لمأساة مارلين مونرو، وقد ظهر لي مدى صعوبة هذا الانعتاق بعدما تابعت مأساة السيندريلاتين العربيتين ليلى مراد، التي اختفت حسب نموذج جاربو لتحتفظ بصورتها الشبابية على الشاشة، كما هي دون خدوش الزمن، وسعاد حسني التي عانت في سنواتها الأخيرة من سطوة الأيام على صورة "زوزو"، وكنت قبل ترجمتي لمذكرات باردو واهتمامي بتجربتها في الفن والحياة أكثر إعجابا بالنموذج الأنثوي لمنافستها كاترين دينوف، التي جاءت من بين صفوف الجيل التالي كرسالة عراف أسطوري ينذر بزوال عرش باردو، فقد تخطت دينوف سنوات الزمن بمهارة انثوية حافظت خلالها على صورتها كامرأة رشيقة، وفنانة قابلة للاستمرار في مراحل تالية لمرحلة الصبا والشباب، بل صارت اسما فرنسيا يقترب في مكانته من أسطورة باردو، ولكن بأسلوب مختلف يشبه عندنا نموذج فاتن حمامة، وفي ذلك الوقت كنت أسعى للحصول على نص كتيب صغير يضم دراسة للفيلسوفة والأديبة الفرنسية الشهيرة سيمون دي بوفوار عن بريجيت باردو، باعتبارها نموذجا جديدا للمرأة يعيد إحياء "عقدة لوليتا".. تلك الفتاة الصغيرة التي تميل للرجال الكبار الذين يملأون مكان الأب، وليس الشريك الند المتكافئ، ولما حصلت على الدراسة وقمت بترجمتها والتمعن فيها، وبعدها كتاب للأديبة فرانسوا ساجان شريكة باردو في النضال من أجل الحرية الأنثوية، كمدخل لحرية العالم، تبينت كم نحن نمطيون وفقراء في التعامل مع "ثقافة الحياة"، ولذلك توقفت باهتمام وإدراك أمام إجابة ديلون التي عبر فيها ببساطة شديدة عما تعبت كثيرا لكي أتوصل إليه، وهو أن الأشياء الغريبة التي قد ينتقدها هذا أو يسخر منها ذلك، أو تستهين بها تلك، قد تكون هي نفسها التي تحفظ حياتنا وتحمينا من كوراث أفظع، وهذا يعني أن كل إنسان يجب أن يكون لديه هدف ما يعيش من أجله، ويعطي حياته قيمة، ومهما كان هذا الهدف بسيطا أو مثاراً لسخرية البعض، فيكفي لحفظ حياتنا وحمايتنا من السقوط.

فهل لديكم هدف ما؟
لا يهم أن تقولوا لي ما هو؟.. المهم أن تشعروا أنتم بأن لحياتكم هدفا ومعنًى، حتى لو كان إطعام قطط الشوارع!.
ektebly@hotmail.com