نزيف الكرامة من أبوقرقاص إلى الكويت (أين الحقيقة -2)

مي عزام الأحد 29-05-2016 22:15

قبل أن نتعرف على حقيقة ما حدث لسيدة أبوقرقاص في قرية الكرم بمحافظة المنيا، صدمتنا حادثة قريبة الشبه خارج حدود الوطن، في الأولى تم تعرية سيدة قبطية على الملأ في جريمة أخلاقية همجية تكشف عن مأساة تهلهل النسيج الاجتماعي، وفي الثانية تم تعرية شاب مصري في الكويت وإهانته بالضرب والتجريس في واقعة مستنكرة تكشف مذلة وهوان المصري ما بين الداخل والخارج، فقد ظهر بوضوح أن كرامة المصريين مهدرة بلا ثمن في أرضهم وخارجها، والمشكلة أن السلطات المسؤولة لم تكتف بالصمت والعجز، بل إنها سعت للطمس والتمويه بالأكاذيب والتلفيق، أو بالمماطلة وتصريحات التسويف.

في حادثة المنيا تم التكتم على الحادث، كأننا نعيش في عصور الإقطاع، وكأن كل الحديث عن ثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة مجرد شعار غير واقعي لا يصدقه المسؤولون في أكبر بلد عربي، ثم بعد أيام تسرب الخبر، وتحول إلى فضيحة لمجرد أن الحادث يتعلق بمشكلة الفتنة الطائفية، بكل مالها من حساسية سياسية ومردود اجتماعي وإعلامي خاص، وفهمنا أن الحادث وصل إلى حد عرض سيدة عارية في شوارع القرية، كنوع من التجريس، في المقابل خرجت تصريحات تنفي الواقعة تماما، وتتحدث عن خلاف محدود ومشاجرة عادية لم تصل إلى حد التعرية ولا التجريس.

هكذا تم تناول الحادث إعلاميا، من خلال تصريحات وصل فيها كل طرف إلى أقصى درجات التطرف في عرض القضية من خلال وجهة نظره، طرف يؤكد أن أكثر من 300 شخص هاجموا منزل سيدة قبطية، ومزقوا ملابسها عمداً بغرض فضحها وطافوا بها في شوارع القرية ردا على علاقة ابنها بسيدة مسلمة، وطرف آخر يضم مسؤولين في أجهزة الأمن، نفى التعمد والتعرية والتجريس تماما.

المفاجأة أن القضية التي تفجرت كفضيحة، وقدمها الإعلام من خلال وجهة نظر قريبة من الطرف الأول، سرعان ما بدأت تتراجع إعلاميا وفي أوراق التحقيقات الرسمية، لتقترب من سيناريو النفي، فالشهود الذين تضمنتهم التحقيقات (5 شهود عيان) بما فيهم زوج السيدة القبطية تجنبوا الحديث عن واقعة التعرية، كأنها محض افتراء لم يحدث أصلا، والمحافظ يقدم مبلغا ماليا للزوج تعويضا عن حريق شب في منزله ضمن تبادل حرق المنازل بعد أن اتخذت الفضيحة بعداً طائفياً، تدخلت فيه الجهات الرسمية كالداخلية والمحافظة، والمؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة، والقوى الشعبية التي تمثلت في بيت العائلة ونواب الشعب وأعيان المجتمع الصعيدي.

ووسط هذه التدخلات لم يهتم أحد بالكشف عن الحقيقة في حدودها الواقعية، كانت هناك مبالغات تسعى لتضخيم الواقعة، قابلها نفي وإنكار وطمس حقائق و«فبركة» شهادات تعيد تكييف الحادث وتصويره على أنه خلاف بسيط، برزت خلاله أخلاق القرية وروح التسامح الديني، حتى إن الأسرة المسلمة المتهمة هي التي دافعت عن السيدة واستضافتها وقدمت لها الحماية، ثم زاد الحماس فتحدثت إحدى السيدات بعفوية خارج التحقيقات الرسمية لتقول إنها سترت السيدة القبطية بملابسها وقامت بحمايتها في منزلها، وهذه الشهادة العفوية تعيدنا إلى أصل الواقعة لتؤكد أن هناك جريمة اعتداء وتعرية وإهانة، حتى لو لم تصل إلى التجريس المنظم كما في عصر المماليك.

القضية بهذا الشكل توضح كيف تتحرك أجهزة الدولة بلا شفافية، وتفكر أول ما تفكر في تزوير الواقع، وتلقين الشهود بالكلمات التي يحددها موظفو المكاتب الحكومية بصرف النظر عن الحقيقة وقواعد التحرك القانوني والإنساني التي تمليها فكرة الدولة، وهذا يعني باختصار أن الدولة هي أول من يضرب أساسيات الدولة، وأول من يخترق القوانين، وأول من يغمض العيون عن النار التي تشتعل في ثياب المجتمع.

وهذا الأسلوب ينقلنا إلى التفكير في وضع المواطن المصري الذي تمت تعريته في دولة الكويت الشقيقة، وتصويره بهذا الوضع المهين مع الضرب والإذلال.. فهل يمكن أن نتصور أن دولة تفعل ذلك وأكثر مع مواطنيها في الداخل، يمكن أن تحافظ على كرامتهم في الخارج؟.. هل يمكن أن نصدق تصريحات وزيرة الهجرة عن الاهتمام بشكل فعلي باسترداد كرامة المصريين في الخارج ورد اعتبار مثل هذا الشاب؟

في رأيي أن شعار الكرامة الذي رفعته ثورة يناير، لم يكن من فراغ، وفي رأيي أن السلطة بكل مؤسساتها لم تفهم حقيقة مطالب المصريين عندما رفعوا أصواتهم في الميادين مطالبين بالعيش والحرية والكرامة، ولم يحدث أن أثبتت مؤسسات هذه السلطة أنها حريصة على تحقيق مثل هذه المطالب الجوهرية للمواطن، وهذه المطالب بلا أي شك أو خلاف هي المبادئ الأولى لبناء فكرة الدولة قبل مصانع السماد واستصلاح الأراضي وشراء الطائرات والغواصات وتشيد العاصمة الإدارية، وإذا لم تأخذ السلطة بكل جدية واهتمام مطلب كرامة المصريين في مقدمة اهتماماتها، فلا أمل في بناء الدولة، ولا رجاء من أي مسؤول يقبل بهذا المستوى الذي وصل إليه حال المصريين بره وجوه.

ektebly@hotmail.com