كان أغرب ما سمعت لتبرير اللجوء، كما هي العادة في هذه المواقف، إلى مجالس الصلح العرفية، ومشاهد تبويس اللحى بين رجل دين مسلم بالزي الأزهري، ورجل دين مسيحي بالزي الكهنوتي، هو أن السيدة التي أصابتها الإهانة العلنية بسبب أفعال إجرامية يجب أن تتسامح في حقوقها إذا كانت مسيحية حقا.
واستعان أصحاب هذا الرأي، وكلهم مسلمون بالمناسبة، بدعوة السيد المسيح- عليه السلام- للمضروب على خده الأيمن أن يدير لضاربه خده الأيسر.
وكأن ما جاء به السيد المسيح هو الحق دليلا وتخريجا فقهيا لحل سريع مريح لأزمة لا تحدث للمرة الأولى، وليس من المتوقع أن تكون الأخيرة، وكأن هذه التخريجة النميسة كفيلة بأن تجب ما عداها من أحكام الإسلام التي تأمر بمراعاة أهل الذمة، ومن أحكام الإنسانية التي لا تقبل إهانة إنسانة بطقوس همجية جماعية، ومن أحكام القانون التي تكيف الأزمة بأحداثها على أنها سلسلة من الجرائم المترابطة التي يتوافر فيها القصد والدافع والأركان المشكِّلة للفعل الجنائي.
عندما أنشأت البشرية القوانين الجنائية كانت تسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين، الأول هو ردع الجاني عن تكرار فعله الإجرامي بعقابه وعزله عن المجتمع اتقاء لشره، والثاني هو الردع العام لبقية أفراد المجتمع الذين سيتخذون الجاني الذي أجرم فعوقب عبرة ومثلا، وسيتقون أي مواجهة مستقبلية مع النظام القانوني خوفا من العواقب التي حلت بالمجرم السابق.
وربما لا تحقق هذه المنظومة نتائجها بشكل فوري، لكن القوانين تخلق هيبتها وتنشئ قدرتها الرادعة للأفراد والجماعات بالحسم الذي ينشئ بدوره اعتياد الناس على أن هذا القانون سيستجيب بشكل رادع في كل مرة يتعرض للخرق والانتهاك، وعندها يسود القانون على إرادات الجانحين ونوازعهم الإجرامية.
أما القانون الذي يطبق في مناسبة ويحيَّد في مناسبة أخرى، أما القانون الذي يسري على أشخاص ولا يسري على أشخاص غيرهم، فهو قانون كتب عليه ألا يؤتي في أي وقت قدرته على تحقيق الردع العام.
إقامة هذه المنظومة خطوة لا بديل عنها لإقامة الدولة المدنية التي نسعى إليها، تلك الدولة التي يسودها قانون لا يفرق بين الناس على أساس من العرق أو النوع أو الدين أو الطبقة، والذي لا يعلو عليه شيء من القوانين البدائية التي تحوز قوة عرفية في مجتمعات بعينها، أو في ظروف بعينها.
وعلى هذا الأساس لا يمكن النظر إلى حال الصعيد على أنه حال وسيط يتقدم من العصبية والقبلية إلى المدنية رويدا رويدا، فالحقيقة هي أن الصعيد مجتمع يزداد حصانة مع الوقت من القوانين المدنية، ويزداد تمسكه بقوانينه العرفية التي تبعده أكثر فأكثر عن الحالة المدنية المرجوة.
وليس من المتوقع أن يتقدم مجتمع الصعيد من هذه الحالة البدائية إلى حالة أكثر تقدما على كل الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما دام النظام القانوني والقضائي يقدم الاعتبارات العرفية على الاعتبارات القانونية في حالات جرائم الشرف وجرائم الثأر والجرائم ذات الصبغة الطائفية.
إعادة أمر جريمة جنائية بهذا الحجم إلى أحكام عرفية ستقود بالضرورة إلى الانحياز للطرف الأقوى اجتماعيا، وهو ما سيقود بدوره إلى حلقة مفرغة من الردة والارتجاع إلى مزيد من البدائية على حساب سيادة القانون، وما يستتبعها من تأخر في كل المجالات التي لا يمكن أن تترقى من الحالة الذهنية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية للمجتمعات الزراعية إلى حالة المجتمعات المتقدمة إلا بعد عبور الحاجز من خرافات القبلية والعصبية إلى واقع المجتمع العصري المدني.
ولم يبق إلا أن أذكِّر بأن القانون الذي يطبق جزئيا يترك على المجتمع آثارا أكثر ضررا وخطورة من عدم وجود القانون نفسه، وبأن بناء دولة المؤسسات وإعلاء القيم العصرية يحتاج إلى شجاعة من صاحب القرار ستقوده إلى مواجهة حاسمة من أسباب الابتلاء، لكنها ستكون مواجهة أخيرة قاطعة اختصرها الموروث الشعبي في عبارته الحكيمة «وجع ساعة ولا كل ساعة».