عندما تشتد الضغوط على أصحاب الأفكار الجامدة والمتشددة، فإنهم يلجأون لحيلة وهى تغيير أسلوبهم فى تنفيذ هذه الأفكار ولكن دون التخلى عن إيمانهم بها، أى ما يقومون به هو تغيير فى التكتيك وليس فى الاستراتيجية.
هذا ما فعله بالضبط اثنان من ساسة المنطقة خلال الأيام الأخيرة. الأول هو بنجامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، والثانى هو راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة الإسلامية بتونس.
نتنياهو رحّب بالدعوة المصرية لاستئناف عملية السلام، ودعا لمفاوضات مباشرة مع السلطة الفلسطينية. بعض الكتاب المصريين تعاملوا إيجابيا مع تصريحات نتنياهو، بل شبهه البعض بمناحم بيجِن الجديد، أى الزعيم اليمينى القوى القادر على الوصول لاتفاق سلام مع القيادة الفلسطينية كما فعل بيجِن مع الرئيس السادات.
حقيقة الأمر أن نتنياهو لا يؤمن بقيام دولة فلسطينية، وعندما أعلن قبوله - تحت ضغوط دولية- لحل «الدولتين» عام 2009، فإنه عاد عام 2015 وتخلى عن هذا الإعلان واعتبره ملغى، وبرّر ذلك بتغير الظروف، وذكر أن أى مساحة من الأراضى ستتخلى عنها إسرائيل سيسيطر عليها الإرهابيون، لذا لن يكون هناك «انسحابات» أو «تنازلات»، وأن عهده لن يشهد قيام دولة فلسطينية. نتنياهو هو صاحب مدرسة وضع شروط شبه مستحيلة لاستئناف عملية السلام مثل دعوته من قبل لتحول كل الدول العربية إلى نظم ديمقراطية لضمان استمرار السلام مع إسرائيل، أو مطالبته الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كوطن لليهود.
نتنياهو يؤمن بـ«المفاوضات من أجل المفاوضات» وليس لتحقيق السلام، ودعوته لمفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين الهدف منها عرقلة جهود السلام الدولية فى إطار مؤتمر باريس الذى سيعقد فى ٣ يونيو القادم، وتخوفه من توافق أمريكى أوروبى بشأن القضية الفلسطينية فى الشهور الأخيرة لولاية أوباما، والتى يتحرر فيها من الضغوط. الخلاصة: نتنياهو لن يتغيّر، وعقيدته ليست الدولة الفلسطينية، وأولويته البقاء فى الحكم وإرضاء اليمين الإسرائيلى الذى أصبح يشكل أغلبية الناخبين فى إسرائيل. تصديق كلام نتنياهو عن السلام هو تغليب لتفكير الأمنيات على حقيقة الواقع.
السياسى الآخر هو راشد الغنوشى، الذى أعلن أن حركة النهضة الإسلامية فى تونس سوف تقوم بالفصل بين «الدعوى» و«السياسى» بحيث يتفرغ الحزب للعمل السياسى، وتحال باقى الأنشطة للمجتمع المدنى، مع الاحتفاظ بالمرجعية الإسلامية!. هذا الإعلان جاء كاستجابة للضغوط التى تتعرض لها الحركة فى تونس والانتقادات لتنظيمات الإسلام السياسى بشكل عام. بعض الكتاب المصريين رحبوا بتلك الخطوة، وأثنوا على حركة النهضة وانتقدوا جماعة الإخوان المسلمين لأنها لم تقُم بعمل مماثل عندما كانت جزءا من المشهد السياسى المصرى.
حقيقة الأمر أن إعلان الغنوشى يحمل تناقضا كبيرا، فكيف يكون الحزب مدنيا وذا مرجعية دينية فى نفس الوقت، وما الذى سوف يمنع التداخل بين عضوية الحزب وعضوية منظمات المجتمع المدنى التى خرجت من عباءة الحركة، وهل يعقل أن هذه المنظمات سوف تمتنع عن مساندة الحزب ولو بشكل غير مباشر وخاصة أثناء الانتخابات؟ وهل سيتوقف استخدام الإسلام لتحقيق أهداف سياسية؟ وهل يمكن تصديق أن الحزب ذا المرجعية الدينية سوف يعمل على بناء دولة مدنية؟
حركة النهضة بتونس هى بالتأكيد أكثر ذكاءً فى تكتيكات العمل السياسى عن جماعة الإخوان بمصر، ولكن يصعب الحديث عن أن بينهما اختلافا فى الهدف الاستراتيجى.
الخلاصة: الغنوشى الإسلامى ليس بالتأكيد مثل نتنياهو الصهيونى، والنسق العقدى للغنوشى يختلف عن نسق نتنياهو فى المبادئ والأهداف، ولكن من الصعب تصديق أن أيا منهما قد تخلى عن أفكاره الكبرى، والضغوط التى يتعرض لها كلاهما قد أفرزت مجرد تغيير فى التكتيك وليس فى الاستراتيجية، فى الوسائل وليس فى الغايات.