صناعة السجون وصناعة العدو

أحمد الصاوي الجمعة 27-05-2016 21:08

من قال لك إن أبواب السجون يمكن أن يأتى يوم وتوصد فى وجه أصحاب الرأى، من قال لك إن تصنيف السجين السياسى يمكن أن ينتهى ولا يبقى فى السجون سوى المجرمين المدانين بأحكام واثقة صادرة من قضاء مستقل وطبيعى؟

السجون صناعة مثل أى صناعة، لها آليات تشغيل، هل تعتقد أن سلطة يمكن أن تستثمر مليارات الجنيهات فى بناء سجون أو ترثها على حالها، ثم تتركها خاوية على عروشها كالفنادق السياحية فى موسم كساد؟ هذه السجون لابد أن تبقى، وهذه العنابر التى يقبع فيها السياسيون وأصحاب الرأى لابد أن تحقق نسب إشغالها وإلا ربما حُوكمت السلطة بإهدار المال العام.

هذه ليست سخرية بقدر ما هى توصيف لواقع تاريخى مستمر، يتغير فيه كل شىء، الأيديولوجيات والوجوه وأنظمة الحكم وأسماء الحكام والقوانين ومواد الدستور، كل شىء يتغير إلا السجون والمحاكم الاستثنائية.

علمتنا أفلام البوليس السياسى أن الثورة هى الحل لإغلاق المعتقلات.. وكان الضباط الأحرار ثائرين يبغضون السجن وأفعال السجّان، بعضهم عاش مرارات الحبس وذاق علقمها، لكنهم حين تمكنوا استبدلوا السجّان والسجناء، لكنهم لم يهدموا السجون، وحين هدم السادات سجناً ليعدك بأن عهد الاعتقالات ولّى، بنى غيره سجوناً كثيرة.

كان ضباطنا يوماً ثائرين ولم تختف زنازين الرأى، وبقيت الزنازين مفتوحة واستمرت، حتى بعد أن قامت ثورة شعبية وجاء ضباط غير ثوريين يؤدون مهمة رسمية بتكليف من الذى أسقطته الثورة، تعاملوا مع الوطن بثقافة الإرث الشرعى، وكانت السجون جزءًا من هذا الإرث.

ولم يختلف الأمر فى عهد الرئيس المنتخب القادم من قلب الجماعة الدينية التى بنت مشروعيتها لدى شبابها على قصص السجون التى مازالت تلاحقها، لكن الجديد فى عهد المنتخب أن تم ما يُشبه خصخصة السجون بأماكن احتجاز أهلية أشهرها بوابات وغرف حديقة قصر الرئاسة، ومدنيون يمارسون الاستجواب والتعذيب.

ولم يتغير شىء من بعد الثلاثين من يونيو فى أوضاع السجون. بقيت السلطة حريصة على نمو هذه الصناعة وانتعاشها، ولم تفرّق بين قضايا السلاح وقضايا الهتاف، فوصلت نسبة الإشغال ذروتها فى عنابر الرأى، واستثمرت الملايين فى بناء سجون جديدة لمواجهة الضغط الكبير مع نمو صناعتها بشكل ليس له مثيل مع أى صناعة أخرى فى البلد.

السجون صناعة متكاملة، لها ثقافتها وآليات تشغيلها والقائمون عليها وموردوها المعتمدون ومواردها، لكن العنصر الأهم فى هذه الصناعة هو اختراع العدو. الفارق كبير بين نزلاء طبيعيين جنائيين وإرهابيين وبين سجناء رأى أو هتاف. النوع الثانى هو العدو الذى تم اختراعه منذ زمن. والفارق بين النوعين أيضا أن الأول، جنائيين ومتهمين فى قضايا عنف، هم من ينالون رخص العفو والخروج قبل نهاية مدد الحبس وليس سجناء التظاهر.

تقوم الثورات عادة للقضاء على السجّان، وتنتهى فإذا بها تستبدله، ربما تتغير هويات المسجونين وأيديولوجياتهم، لكن تبقى الزنازين قائمة وتبقى عقلية السجّان واحدة وثابتة، فالسلطة، أى سلطة، ربما تشعر بالعار أو بفقدان الهيبة لو أبقت زنازينها خاوية من المختلفين معها سياسياً، الذين يمارسون اختلافهم بعيداً عن العنف، لذلك ربما تجتهد فى اصطياد هذا النوع تحديداً. حتى لا تبقى تلك السجون خاوية منه حتى ولو بشيطنته والتعامل معه بوصفه العدو الأشد خطورة.. وحتى لو كان هذا العدو مصورًا شابًا مثل «شوكان» يقضى عامه الثانى فى الحبس، أو امرأة مثل آية حجازى وزوجها، قضيتها كانت أطفال الشوارع، أو مجموعة شباب كل جريمتهم أنهم غضبوا لما اعتقدوا أن الدولة تنازلت عن أراض مصرية، فخرجوا مدفوعين بإحساس وطنى وليس مكايدة سياسية للانتصار لقضية لديهم فيها من الشواهد والدلائل ما أعتقد أنه يوازى ويزيد ما لدى الأطراف التى تؤيد التنازل.

لكن التظاهر من أجل الأرض احتاج لمحاكمة عاجلة أمام دائرة «إرهاب» وحبس سريع، ورغم تعديل حكم الحبس فى الاستئناف بغرامة باهظة قيمتها 100 ألف جنيه لكل متهم بمجموع يصل لخمسة ملايين جنيه تقريباً للمتهمين جميعاً إلا أن شواهد اختراع العدو وصناعته قائمة، ومحاولات جلب نزلاء جدد لشغل المساحات و«الأشبار» الباقية دون سجناء فى أماكن الاحتجاز حثيثة. الدولة لابد أنها تخشى على صناعتها من الكساد، ولا تتصور أن تبقى مساحة، حتى ولو محدودة، فى سجونها «خاوية».

sawyelsawy@hotmail.com