العسكرية المصرية ومائة ألف قمر «٢ - 2»

صلاح فضل الأربعاء 25-05-2016 21:36

التقط الضابط الوطنى الذى ظل على ولائه للثورة شقفة من الحجر الجيرى لينقش عليها اسم أحد رفاقه الذين سقطوا فى معركة القصاصين، فقد كانت هذه تسليته الوحيدة وجهده فى تخليد ذكرى زملائه من شهداء الوطنية، وسوف يسائله البوليس عن ذلك فيما بعد، على أن أحداث رواية الدكتور عمرو شعراوى الأولى بعنوان «طوكر.. حكاية مائة وألف قمر» لم تمض على نسق منتظم فى التسلسل الزمنى، إذ شابها ارتباك فى الفصول الأولى، حيث تبدأ من نقطة متقدمة فى السرد بتاريخ مارس 84، وهذا طبيعى، لكنها تأخذ فى السرد المتراجع دون اعتماد على تقنية تشكيل الزمن طبقاً لوعى الراوى، ويبدو أن التجربة الأولى للمؤلف تحمل بصماتها، فهو يقطع مثلاً سياق الجدل السياسى فى المسألة العرابية ليشرح لنا الراوى طريقة صنع «المفتقة» فى منزلهم دون أى ضرورة، ليستأنف فى الفصل التالى شرح حالة الطابية والمعسكر فى التل الكبير، وأحسب أن بعض الاختصارات هى السبب فى الفجوات النصية، وأنصح بإعادة ترتيبها فى الطبعة اللاحقة.

3تحتشد الرواية بالمواقف الإنسانية والإشارات الأسطورية حتى فى سردها للحيوات العادية فى هذه الآونة، فصوت الراوى الذى يقدر له أن يخلع زيه العسكرى ويعيش فى جلباب حفار قبور تدفعه قدمه لإحدى دور اللهو والمتعة فى كلوت بك بالقاهرة، يهيم بإحدى الفتيات ويرتكب من أجلها جريمة قتل المعلم «أيمن طواجن» صاحب الماخور الذى تعمل به، مبرراً ذلك لنفسه بأنه كان عميلاً يشى بالوطنيين العرابيين للشرطة والإنجليز، وتكون تلك الجريمة هى الخيط الذى يصل منه البوليس للقبض على أول جماعة مناهضة للاحتلال تكونت باسم «المؤامرة الوطنية»، ثم يصف الراوى بالتفصيل مرض «الهيضة - الكوليرا» التى أصابت مصر وحصدت الأرواح فيها، وكيف واجهها والده فى منزلهم بالرجوع إلى تذكرة داود، وإعداد الدواء المنقوع منها، لكنه بالطبع لم يُجْدِ شيئاً وراحت أمه وأخته ضحية للوباء اللعين.

على أن أهم ما يميز الروايات التاريخية، ويكشف عن مدى صدق تمثيلها - لا للأحداث، فهذا سهل يسير - وإنما لطبيعة الوعى الإنسانى بالوجود فى هذه المرحلة من التطور الحضارى هو قدرتها على تجسيد الأخيلة والمعتقدات والأوهام، ورؤيتها للعوالم غير المنظورة حسب ما كانت تفرضه الظروف قبل انبثاق نور المعرفة فى القرن العشرين، فما نحسبه اليوم من الأساطير كان قلب الواقع المحسوس المصدق من الجميع. فهذا الضابط الشاب يلتقى إثر نجاته من المعارك الحربية الطاحنة، وهروبه فى الظلام بعد قضائه على العميل الخائن بواحد من الدراويش يكلمه بالألغاز، فيبدو أنه يعرف أسراره وسرائره، ويتوهم أنه يطارده ليرشد البوليس إليه، حتى يذهبا معاً إلى مقام الإمام الشافعى وهناك يدرك أن الشيخ «قد نقى أفكاره من الشوائب التى أدت بى فى الآونة الأخيرة إلى التخبط والضياع.. شجعنى إحساسى هذا بالعودة إلى الشيخ كى أناقشه فى أمورى بعد الانتهاء من الصلاة، عندما رجعت إليه لم أجده، كما ظهر بلا سابق إنذار تركنى فجأة، لم أره يغادر المكان، أسرعت بالخروج من المقام محاولاً العثور عليه فلم أجد له أثراً. لقد اختفى كأنه «فص ملح وداب» نظرت إلى الطيور التى تحوم حول قبة الإمام الشافعى فرأيتها ترفرف بأجنحتها مبتعدة فى اتجاه سفح المقطم نحو «وادى المستضعفين»، هذا المشهد الرمزى للطيور الذى تختتم به الواقعة وتبخر الدرويش مشاكل تماماً لوعى الراوى، لا فى عصرها فحسب، بل لمعظم الناس فى بلادنا، بالرغم من التفكير العلمى الذى يدرسه المؤلف لطلابه، والغريب أن الصفحات المطولة التى كانت مكدسة بمئات أو آلاف التفاصيل عن المعارك ودقائق الحياة اليومية المعتادة فى مصر أو السودان لم تكن تثيرنى بقدر ما أبتهج عندما يشتعل خيال المؤلف ويبتكر لمحة مجنحة مما وراء الواقع، إذ يبدو أن هذه اللمحات هى التى تعزز أدبية السرد وتزكى شعريته، فعندما ذهب الضابط إلى سواكن فى السودان مثلاً وقص علينا أنها كانت أرض سليمان الذى سخّر الجن فيها، وحكى لنا قصة الأمير والعذارى الشائقة تبين أنه يحكى فعلاً عن المعتقدات العميقة للسودانيين، وعندما وصف معارك أنصار المهدى مع الكتائب المصرية وزعم أنه «رأى أعمدة من النور تخترق السحب الكثيفة حاملة معها خيولاً من تبر هبطت من السماء لتحارب فى صفوف أنصار المهدى، وشاهدت ناراً تنبثق من حرابهم فتحرق عساكرنا الذين خروا على الأرض راكعين».

هذه الرؤى الأسطورية هى وحدها التى تشرح أسباب انتصار القبائل البدائية على الجيش المسلح المدرب، وأحسب للمؤلف قدرته على توظيف هذه العناصر الأسطورية التى لا تتقاطع مع التفكير العلمى، بل تشحن الفكر الأدبى بطاقته التخيلية، إلى جانب ما تشف عنه الرواية من ولع بالتوثيق التاريخى وقدرة على إطلاق الشرارات الضوئية الرائقة على فترة مجهولة فى الوجدان المصرى، فهى تذهب بنا إلى طوكر لنفهم ضياع السودان من مصر تحت وطأة هذا التاريخ المشحون بالإحباط والسعى الدؤوب فى الآن ذاته.