الحرية تمنحنا بالتأكيد مساحات من الخلاف فى قراءة الأعمال الفنية، ولكن هناك فارقا بين الحرية والتعسف، وهو ما وجدته فى تحليل البعض للجوائز التى أعلنت قبل يومين فى «كان»، مثلما لاحظته فى تحليل الداعية الإسلامى الحبيب الجفرى لأغنيتى «أنت عمرى» و«أمل حياتى» لأم كلثوم، باعتبارهما «أغنيات دينية» فى حب الرسول عليه الصلاة والسلام، ونسب الجفرى هذا التحليل لشاعر الأغنيتين أحمد شفيق كامل، وبالطبع وجهه المرحب بهذا التفسير، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن تلك هى قناعته، إلا أنه لم يجرؤ على القول بأن يصل التفسير إلى أن الشاعر كتبهما فى حُب الله، كان الجفرى يُدرك أنه لا يستطيع أن يصل إلى السقف فاكتفى فقط بأنهما فى حب نبينا الكريم.
شىء من هذا من الممكن أن تلحظه فى تفسير جوائز مهرجان «كان»، فى تلك الدورة التى افتقدت تماماً الفيلم التُحفة، الذى يظل يسكنك بعد انتهاء فعاليات المهرجان، التسابق بين الأفلام تنظر إليه لجنة التحكيم باعتبار ما هو متاح أمامها، وتنحاز للفيلم الأجمل بين الأفلام المعروضة، وهكذا نقرأ التحليلات للنقاد والصحفيين ليس فقط باعتبارهم أدرى بشعابها، ولكن لأنهم أيضاً شاهدوا تلك الأفلام وبالتالى يُصبح من حقهم أن يتناولونها شرحا وتحليلا، مثلا الفيلم الحائز على جائزة «السعفة الذهبية» للمخرج البريطانى كين لوتش «أنا دانييل بليك»، رأت الأغلبية أنها جائزة للفكر الذى طرحه الشريط السينمائى بلغة إبداعية تكاملت فيها العناصر السينمائية المرئية والسمعية ليحصد المخرج ثانى سعفة له بعد عشر سنوات من الأولى «الريح التى تهز الشعير». ولكن يرى آخرون الجائزة بأنها مجرد مقابل العمر الزمنى، فهو فى الثمانين من عمره، بل كان يُفكر جدياً قبل سنوات قلائل فى الاعتزال، وكأنها تتويج لرحلة العمر، ولا أتصور الأمر صحيحاً، لأن الفيلم يؤكد أن المخرج لايزال شاباً فى إبداعه أنه الأفضل فى طرح قضيته الاجتماعية وفضح القصور الذى يتغلغل فى المجتمع البريطانى وليس فقط فى الأجهزة التابعة للدولة عندما نجد أن من يتستر على البطلة التى سرقة حفاضات شخصية من السوبر ماركت لأول مرة فى حياتها، ولم تفعلها من قبل، وعندما ينقذها من السجن رجل الأمن لم يكن يُعبر عن تعاطف حقيقى، ولكنه أراد أن يساومها على الثمن لتعمل فى بيت دعارة لحسابه، كما أن جار البطل «دانييل بليك» يتاجر من خلال تزييف الأنواع الشهيرة من الماركات العالمية الشهيرة بأخرى صينية مزيفة، فلقد أراد أن تتسع الرؤية ليشير إلى أن المجتمع كله مهدد بالتفسخ، كما أنه فقد التعاطف مع الآخر، لا أظن الثمانية عقود من الزمان التى يحملها المخرج على كاهله هى طريقه للجائزة ولكنه ببساطة الإبداع ولا شىء آخر استحق من أجله السعفة، ولم تكن هذه هى فقط القراءة المتسرعة الوحيدة، لديكم مثلا المخرج الإيرانى أصغر فرهدى، ونصيبه فى هذه الدورة جائزتان، الأولى عن السيناريو الذى كتبه كعادته، فهو ينتمى إلى ما هو معروف بسينما المؤلف، والتى لا تعنى مباشرة بأن يكتب المخرج فيلمه، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، أن يُصبح للمخرج عالمه الخاص وهذا هو بالضبط أصغر فرهدى ،الجائزة الثانية للفيلم حصل الممثل البطل شهاب حسينى، وهى جائزة أيضاً للمخرج، ولو تتبعت مشواره لاكتشفت أن المخرج الحاصل على جائزة «الدب الذهبى» فى مهرجان برلين قبل خمس سنوات بفيلمه «انفصال نادر وسيمين» وجائزة «أوسكار» لأفضل فيلم أجنبى وجائزة «سيزار» الفرنسية الموازية للأوسكار، ستجده دائما يُبدع فى فن قيادة الممثل لأن شهاب حسنى حصل أيضاً على نفس الجائزة فى برلين عن «انفصال»، كما أن أصغر فرهدى فى فيلمه الفرنسى «الماضى» الذى عُرض قبل ثلاثة أعوام فى «كان» حصلت البطلة برنيس بيجو على جائزة أفضل ممثلة، فهى ملكة أخرى لقيادة ممثليه إبداعيا ليحصدوا بعدها الجوائز، ولاشك أن السياسة لم تلعب دورا فى توجه الجوائز، وليس كما فسره البعض، صلح بعد طول غياب مع إيران الدولة، حيث إن المهرجان ظل يعرض قبل سنوات فى فعالياته أفلاماً تُمثل المخرجين المعارضين للنظام مثل جعفر بناهى ومخلباف ورسولوف وغيرهم، دائما نبحث عن السبب الخفى وراء السبب المعلن وغالبا على حساب الحقيقة، مثل من أرادوا سرقة فرحتنا بافتتاح فيلم «اشتباك» قسم «نظرة ما» بالمهرجان، مرة بحجة أنه يهين مصر وأخرى لأن الداعية «معز مسعود» كما اكتشفنا فى «كان» قد شارك فى الإنتاج، وظهر مرتديا الأسموكن والببيون على المسرح، ولا ندرى بالطبع كيف يتم التقييم فى مثل هذه الأمور بتلك الرعونة، الفيلم منسوب للمخرج ولا توجد فيه شبهة إخوانية أو تعاطف مع مجرم ولكنه ينحاز للإنسان.
لماذا نبحث عن شىء آخر فى التفسير وراء التفسير؟ هذا بالضبط هو ما فعله الداعية الحبيب الجفرى فى تحليله وتعقيبه على أغنيتين شهيرتين «أنت عمرى» و«أمل حياتى»، والأغنية الأولى تحديدا والتى وصفوها بـ«لقاء السحاب» أثارت الكثير من اللغط عند بزوغها عام 1964، هاجمها الشيخ كشك بسبب مقطع «خدنى لحنانك خدنى عن الوجود وابعدنى»، تساءل كشك، وكان قد تعود أن يسخر من الأغانى للمشاهير، وأم كلثوم لها القسط الأكبر بالطبع، تساءل بتهكم: ما الذى تريده هذه العجوز بأن «يأخذها بعيدا عن الوجود»، بينما على الجانب الآخر تماماً قال الجفرى إن الشاعر أحمد شفيق كامل أخبره أن «أنت عمرى» قالها فى حب الرسول عليه الصلاة والسلام، والحقيقة أن هذا التفسير ليس بجديد، وفى حياة الشاعر الرقيق أحمد شفيق كامل الذى كان من حسن حظى أننى تعرفت عليه واقتربت بقدر من تلك الشخصية المتواضعة والخجولة، كان شفيق فى السنوات الأخيرة من عُمر الشيخ متولى الشعراوى قريباً منه بل واحد من حوارييه، وهو الذى دفعه إلى اعتزال كتابة الأغانى العاطفية، قائلاً له كتبت كثيراً عن العواطف بين الرجل والمرأة، لماذا لا تكتب فى حُب الله، شىء من هذا أيضاً قاله لحسن يوسف ليدفعه بعيدا عن تقديم الأفلام العاطفية، ولو كان الشاعر شفيق كامل يراها أغنيات دينية، كما ذكر الجفرى، فلماذا لم يدافع عنها أمام الشيخ الشعراوى، ولكن هذا التفسير باعتبارها، وتحديداً «أنت عمرى» عبارة عن اجتهاد من كاتبنا الكبير الراحل خيرى شلبى، نشره فى كتاب أكد فيه أنها كُتبت فى حب الله، لا أنكر أن التفسير وجد صدى طيباً لدى شاعرنا، ولو كانت «أنت عمرى» وأخواتها، فى حب الله لماذا فى توقيت ما كان شاعرنا الكبير يحرم على نفسه الحصول على الأداء العلنى والذى يناله الشاعر والملحن مقابل ترديد أغنياته فى الوسائط الإعلامية، ورغم أن شاعرنا الكبير مُقل جدا فى الإنتاج ولكن له أربع أغنيات ناجحة لأم كلثوم، بالإضافة لـ«أنت عمرى» و«أمل حياتى»، لديك مثلا «الحب كله» و«ليلة حب»، تُدر عليه ومن بعده الورثة عدة آلاف من الجنيهات، بالفعل ظل شاعرنا متردداً بضع سنوات فى الاستفادة مادياً من تلك الأغنيات باعتبارها معاصى سيحاسب عليها أمام وجه كريم، لم يكتف الجفرى بذلك بل اختلط عليه الأمر وأضاف أن مقطع «أنام وأصحى على شفايفك بتقولى عيش» فى «أمل حياتى» اعترضت عليها أم كلثوم قالت له كيف تقول للنبى عليه الصلاة والسلام «شفايفك» فتغيرت إلى «ابتسامتك»، والحقيقة هى أن أم كلثوم تخوفت وقتها من غضب بعض المتزمتين من كلمة «شفايفك» فغيرها شفيق كامل، ولا دخل أبداً لمشاعر دينية فى إجراء هذا التغيير، ولم تكن فقط هاتين الأغنيتين اللتين يتم تفسيرهما على هذا النحو، شاعر كبير آخر معروف عنه تصوفه وهو عبدالفتاح مصطفى قال إن أغنية «ليلى ونهارى فكرى بيك مشغول/ وحياتى لك وحدك ولك على طول» أكد أنه كتبها حباً لله، وأن أم كلثوم قرأت النص على هذا النحو فهو يحب الله 24 ساعة يوميا، تظل مجرد قراءة تلوى عُنق الكلمة والمعنى، والدليل أن الناس تعايشت مع الأغانى على هذا النحو العاطفى ولايزالون، ولو كانت «ليلى ونهارى» حباً لله، هل يجوز أن يقول فى المقطع التالى «ولسه بتصدق حسود وعزول»، هل يوجد عوازل فى علاقتنا بالمولى عز وجل، وسوف تلاحظ أن الجفرى لم يقل إن أغانى أم كلثوم مكتوبة فى حب الله حتى لا يتعرض للهجوم الكاسح من المتشددين، ولكنه جعلها للتخفيف فى حب الحبيب المصطفى.
الحقيقة أننا نجرح الفن بقدر ما نخدش روح الدين، وتبدو نوعاً من محاولة التبرئة من التورط فى الكتابة العاطفية وكأنها ذنب سيلاحق من يقُدم عليه فى الدنيا والآخرة.
سألت يوماً شاعرنا الكبير شفيق كامل ما مصير موسيقار مثل بيتهوفن أسعد الملايين فى العالم بإنجازاته الرائعة ولايزال ولكنه لم يعتنق الإسلام، وهل شكسبير وفان جوخ فى النار؟ أجابنى أنه سأل الشعراوى نفس السؤال فأجابه أنهم يحصلون على نصيبهم فى الدنيا من السعادة ولكنهم فى النار، قلت له: بالصدفة الذين ذكرتهم تعذبوا فى حياتهم، بل لم يعترف أحد بعبقرية شكسبير فى العالم سوى بعد رحيله، يعنى معذبون دُنيا وآخرة.
فى محاولة للبحث عن قراءة أخرى للأعمال الفنية نرتكب حماقات، شاهدنا جزءاً منها فى تحليل جوائز «كان» إلا أننا كما يبدو المنبع الأول للحماقة فى التفسير!!