إنعام كجه جى تكتب: كنت فى الطائرة المنكوبة

اخبار الأحد 22-05-2016 21:42

كم مرة استخدمت فى حياتى الصحفية صفة «الطائرة المنكوبة»؟ لم أكن أحبها. وكنت أتحايل وألتف عليها بغيرها: الطائرة التى سقطت فى البحر، أو التى اختفت من شاشة الرادار، أو الحالى البحث عنها، أو التى تحطمت على فندق صغير فى ضواحى باريس بعد دقائق من إقلاعها، مثلما حصل وأنا أغطى حادث سقوط «الكونكورد»، عام 2000. إن مفردة النكبة تخاطب ذكرى سيئة فى قاموسنا السياسى العربى. ومع هذا، أجد هذه الصفة تفرض نفسها على عبارتى، وأنا أكتب عن الطائرة المصرية التى تعرضت لحادث مؤلم قبل أيام. إنها نكبة على السياحة المصرية، وعلى أرزاق المصريين، وعلى كل ما تعنيه مصر لنا كعرب.

عدت من القاهرة مساء الأربعاء على متن رحلة مصر للطيران رقم 803 ووصلنا باريس، بالسلامة، فى حدود العاشرة ليلاً، مع تأخير طفيف. ونمت متأخرة واستيقظت مبكرة، صباح الخميس، على خبر فقدان الطائرة نفسها وهى فى رحلة عودتها إلى القاهرة رقم 804. ثم بدأ الهاتف يرن. ابنى وابنتى يريدان الاطمئنان، رغم علمهما بأننى كنت آتية من مصر، تلك الليلة، لا ذاهبة إليها. طوال النهار لم تفارقنى وجوه طاقم المضيفين والمضيفات، خصوصاً تلك التى كانت ترحب بالمسافرين باللغة الإنجليزية من مكبر الصوت، وقد مازحتها فيما بعد، وتحدثنا وضحكنا طويلاً، ماذا حدث بعد ذلك؟ هل واصلت عملها الدؤوب وساهمت فى تهيئة الطائرة لاستقبال وجبة جديدة من المسافرين ورحبت بهم بالطريقة ذاتها، ثم سحبها القدر، مع ابتسامتها الحلوة، إلى أعماق البحر؟ نسمع من خبراء الطيران أن الفترة المقررة لتوقف هذا النوع من الطائرات وتهيئتها لرحلة جديدة يجب ألا تتجاوز الساعة ونصف الساعة، لكى يكون الخط الملاحى مربحاً ويغطى تكاليفه. لازمت التليفزيون فى اليومين التاليين وسمعت معلقين فرنسيين يشيدون بكفاءة الطيار المصرى وبسمعة الشركة، وهناك مَن أشار إلى قصور فى إجراءات السلامة المتبعة فى المطارات المصرية، يقولون هذا رغم أن الطائرة أقلعت من مطار شارل ديجول، أهم مطارات فرنسا، وعليه تقع مسؤولية الأمن، وودت لو أدخل على الخط لأقول إننى لم أعرف إجراءات أكثر تشدداً من تلك التى وجدتها فى مطار القاهرة، هذه المرة، إن عملى يتيح لى السفر الكثير، شرقاً وغرباً، بحيث أستطيع أن أؤلف دليلاً حول كيفية التصرف فى مطارات العالم، والمحاذير والتوصيات المفيدة للمسافر، وحجم الحقائب التى يحملها، والأحذية التى يُفضل ارتداؤها خلال الرحلة.

طلب موظفو الأمن فى مطار القاهرة من السيدات خلع نعالهن المفتوحة والمسطحة، رغم أنها مكشوفة لا تخفى الأقدام، وهو إجراء تتغاضى عنه مطارات أوروبية وأمريكية، وتكتفى بتمرير الأحذية المغلقة على حزام الفحص بالأشعة، كما طلبوا خلع سترات المسافرين من الجنسين، وهو طلب يجرى العمل به منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر المشؤوم، ومَن كانت تتحرج من خلع معطفها «الشرعى» أو سترتها لتمريرها على جهاز الفحص فإن هناك موظفة تتولى تفتيشها فى غرفة جانبية، وبعد أن مرت الحقائب كلها والمعاطف والأحذية على الجهاز عند مدخل المطار، فإن التفتيش الضوئى تكرر قبل ركوب الطائرة، ولم يكتف موظف الأمن بذلك، بل طلب فتح الحقيبة الصغيرة، وتفحص محتوياتها، ودقق المشتريات التى قمت بها من السوق الحرة، وتأكد من تطابق مواصفاتها مع إيصال البيع.

دخلت الطائرة مرهقة لكننى أشعر بالأمان، واستمعت إلى المضيفة وهى تلقى بالصوت والحركة ما يجب فعله عند حالات الطوارئ، تعليمات سبق أن استمعت إليها عشرات المرات لكننى توقفت، هذه المرة، عند تفصيل يخص مصباح الإنارة الموجود فى سترة النجاة، وهو مصباح صغير موجود على الكتف يُضاء بسحب شريط يتدلى منه، وقيل لنا إن الشريط لا يُسحب إلا حين يكون الراكب وسط أمواج البحر لكى يستدل عليه المسعفون، يا ساتر يا رب، وتطلعت إلى السيدة الحامل الجالسة فى الصف المجاور ومعها طفلان صغيران، ولم ألمح علامة قلق على وجهها، إنها نعمة الجهل بالآتى، وبأن طائرتنا هذه ذاتها ستغرق بعد ساعات قلائل.

أقول لنفسى إن الحياة والموت دولاب حظ، أقول إنه دعاء الوالدة يسورنى من الآخرة، أو لعله ذلك الصوت الطيب الذى هتف لى قبل السفر بدقائق، وتمنى لى السلامة، رحم الله ضحايا الطائرة، ووهب أهاليهم السلوى.

*صحفية وروائية عراقية

نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط