من إحراق الغاز إلى تصنيعه

عباس الطرابيلي الأحد 22-05-2016 21:48

صحفياً، كنت مهتماً بالصناعات البترولية منذ عام 1959، وقتها كان البحث عن البترول حلماً لكل إنسان، وكان سيئ الحظ أن نجد الغاز بدلاً من زيت البترول. لذلك كنا- وغيرنا- نحرق هذا الغاز إذا خرج مصاحباً للبترول.. أو يعاد حقنه فى نفس الحقل ليزيد من معدل اندفاع وخروج زيت البترول، ولهذا كنا نشاهد شعلات الغاز المحترق فوق هذه وتلك، فالغاز- وقتها- لم تكن له أى قيمة تذكر!! ومنذ منتصف السبعينيات بدأ التفكير فى استغلال الغاز، وبالذات بعد ارتفاعات أسعار البترول المتتالية- منذ وبسبب حرب أكتوبر 1973، ومن وقتها أخذ التفكير يتعاظم لتحويل هذا الغاز إلى مصدر للطاقة والحياة.. وللعديد من الصناعات، وهو ما عرف باسم الصناعات البتروكيماوية.

وبعد أن كانت شركات الحفر والاستكشاف تندب حظها إذا عثرت على الغاز، وجدنا شركات كبرى مهمتها الأولى البحث عن هذا الغاز.. وربما كان حقل أبوماضى، القريب من رشيد، هو أول حقل غازى مصرى قمت بتغطية أخباره فى أواخر الستينيات فى شمال دلتا مصر، وهكذا دخلت مصر عصر الغاز الطبيعى.

وكانت الطفرة الغازية- الثانية فى مصر- هى تحويل هذا الغاز إلى مصدر للعديد من الصناعات، حتى يقال إننا يمكن أن ننتج منه 1000 منتج صناعى، حتى اللحوم الصناعية!! ولذلك كانت اكتشافات الغاز المصرية أخيرا فى المياه الاقتصادية الدولية لمصر هى فاتحة خير لكل المصريين، وأعادت البسمة لنا بعد انخفاض إنتاج مصر من البترول والغاز معاً، وبعد أن تحولت مصر من دولة مصدرة للبترول والغاز إلى دولة مستوردة لهما.. وانعكس ذلك على قطاع الكهرباء.. ومعظم الصناعات.

وقصة مصر مع تصنيع الغاز وتحويله من مصدر واحد للطاقة- بعد إحراقه- إلى مصدر للعديد من الصناعات، كمادة خام، وفى مقدمتها إنتاج السماد الضرورى- بالذات للأرض الزراعية القديمة- لتحديث وتقوية إنتاجها. وجاءت مصانع موبكو- بدمياط- كبداية عملاقة لهذه الصناعات، وتم اختيار منطقة الميناء لقربها من العديد من الحقول الغازية فى البحر المتوسط.. وتدعمت أكثر باكتشاف حقل غاز ظهر شمال شرق دمياط.. وللاستفادة أيضاً من إمكانيات الميناء للتصدير للخارج، لأن حوالى ثلثى الإنتاج سيتم تصديره.

وللأسف تعرض هذا المشروع لهجمات شرسة وحملة لتحطيمه بحجة حماية البيئة.. وأنه سيؤدى إلى تلوث الجو، وبالذات فى مصيف رأس البر، وهو على بعد خطوات من موقع المصنع.. واندفعنا- كلنا- نعترض ونهاجم المصنع، ولماذا لا يقام بعيداً عن هذا الموقع، ولكن كان هذا الكلام يبعد المصنع عن مواقع إنتاج الغاز، سواء شمالاً فى البحر المتوسط، أو غرباً فى شمال الدلتا.. مما يعنى زيادة تكاليف الإنشاء.

والذين استمعوا إلى كلمات الرئيس السيسى وهو يفتتح مصنعين جديدين من هذا المشروع الكبير عادوا بذاكرتهم إلى أيام تلك الحملات الشرسة منذ سنوات، إذ قال الرئيس: «لا نقبل بأى مشروع يتضرر منه الدمايطة» لأن كل الاشتراطات البيئية تم تنفيذها- وهى ما شرحها الدكتور خالد فهمى، وزير البيئة، فى نفس الموقع أمس- بل اقترح الرئيس السيسى تكوين لجنة مجتمعية من أهل دمياط للاطمئنان على ما يخص البيئة.. بل حسم الرئيس كلمته قائلاً «لا مشروع ولا مصنع يعمل إذا لم ينفذ الاشتراطات البيئية.. وتوفير كل الموافقات الملزمة».. وبذلك حسم الرئيس تلك المعركة التى استمرت عدة سنوات، بهدف تدمير المصنع.. بل والمطالبة بنقله بعيداً عن دمياط.

وإذا كان معظم المشروعات التى تنفذ الآن هدفها توفير احتياجات السوق المحلية.. فإن هذا المصنع، بالإضافة إلى توسعاته الجديدة التى بدأت أمس- يتم تخصيصها للتصدير- وهذا بالمناسبة من أهم أسباب اختيار موقعه مجاوراً للميناء.. ليأخذ الإنتاج طريقه عبر سيور تنقل السماد إلى أرصفة الميناء مباشرة.. وإلى خارج البلاد.

أقول إن هذا المصنع ربما يأتى فى مقدمة المشروعات التى تضيف الكثير للاقتصاد المصرى، لأن أكثر من ثلثى الإنتاج سيتم تصديره للخارج.. وهى ما نسميه «القيمة المضافة للميزان التجارى المصرى»، الذى يعانى خللاً رهيباً بسبب تزايد حجم ما نستورده وانخفاض حجم ما نقوم بتصديره.. والافتتاحات الجديدة التى تمت أمس تضاعف الإنتاج من 650 ألف طن أسمدة يوريا إلى مليون و350 ألف طن.

■ ■ ودون «طنطنة» أو زفة إعلانية نقول إن هذا هو ما يجب أن يكون تفكيرنا.. أى ننتج ما يعطى للسوق المحلية.. ولكن الأهم أن نصدر الفائض الكبير إلى الخارج لنعبر مأساة سطوة الدولار على الاقتصاد المصرى.