لا يمكنك أن تكون قوياً، فى هذا العالم، إلا إذا امتلكت أدوات القوة، أو كنت حليفاً لأقوياء، ولا يمكنك المرور من الأزمات، دون أصدقاء.
ربما ينزعج بعض من يعتبر مصر (أم الدنيا)، إحدى الدول القوية، إذا قلت ببساطة، إننا دولة ضعيفة، وترتيبها فى جميع مستويات القوة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، متدن للغاية.
«1»
لن يكون حادث الطائرة المصرية القادمة من فرنسا، الأخير، ولو ثبت أن الحادث وقع لأسباب فنية، فتوقعوا عملا إرهابيا جديدا، فى أقرب وقت، وهذا ليس توقعاً تشاؤمياً، ولكنه قراءة منطقية للحوداث المتتابعة على مصر، منذ مقتل الباحث الإيطالى، مروراً بتفجير الطائرة الروسية فوق سيناء.
ومن الواضح أن دولة ما أو عدة دول تنتقى الأهداف المصرية بعناية شديدة، فى التوقيت، ومهارة فائقة فى التنفيذ، بهدف تعجيز القاهرة، وكسر إراداتها، وتبديل أولوياتها وتقزيم دورها، عبر إلحاق الخسائر المؤثرة فى الاقتصاد المصرى الهش، والتى يمكن أن تؤدى إلى إسقاط النظام المصرى الذى قد لا يستطع تحمل، اضطرابات اجتماعية ناتجة عن التضخم.
ووسط الضربات المتلاحقة، يبدو واضحاً أن مصر لا تعرف عدوها، على وجه اليقين، ولا تستطيع جلب أصدقاء، أو تحديد مصالحها أو انتقائها بدقة.
«2»
عقدت مصر خلال فترة حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى، التى تقترب من السنتين، صفقات ضخمة متعددة الأوجه، منها مع روسيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وهى صفقات أوروبية الطابع، دون المرور عبر البوابة الأمريكية، وهو أمر يغضب حتماً الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأكبر على مستوى العالم.
الصفقات المصرية، هى الأكبر من نوعها، سواء فى شراء الأسلحة، أو استخراج الغاز من البحر المتوسط، أو بناء محطة الضبعة النووية، أو إنشاء محطات توليد الطاقة، ولكنها لم تجلب الأصدقاء أو الحلفاء إلى جانب السلاح والطاقة والتكنولوجيا، إذ بدت الدول الأربع غير متعاونة، بشكل كاف، بينما تتلقى القاهرة الضربات المتلاحقة الممنهجة.
ثلاث من بين هذه الدول، هى روسيا وألمانيا وفرنسا تملك قدرة معلوماتية قوية، وقادرة على منح صداقتها الحقيقية لمصر، ومساندتها وتزويدها بالمعلومات الاستراتيجية، ولكن يبدو أن الجميع تخلى عنا.
«3»
يطرح حادث الطائرة المصرية القادمة من فرنسا، وغيرها من الحوادث، عدة أسئلة، أولها هل هناك من يحاول تعديل السياسة الخارجية المصرية، ما يتبعه سؤال منطقى أخر، وهو ما هى ملامح هذه السياسة، ومن القائم على صياغتها إلى جانب الرئيس السيسى، وهل وضعتنا رؤية الأخير الاستراتيجية، فى أزمة، أم لا، وهل يجب أن تستمر مصر فى هذا الاتجاه مهما كانت درجات المخاطرة، أم تقوم بتعديل توجهاتها.
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، حجز الزاوية فى أى سياسة تخص دول الشرق الأوسط على وجه التحديد باعتبار أن واشنطن، وريث الامبراطورية البريطانية التى كانت تحتل معظم دول المنطقة، ولا تزال الاتفاقيات التى عقدتها لندن لحماية العروش والرئاسات، سارية حتى الآن.
وطيلة فترة حكم دولة ثورة 23 يوليو فى مراحلها بداية من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مروراً بالرئيس الراحل أنور السادات، انتهاء بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، كانت العلاقة مع واشنطن هى المعركة الأساسية، واعتبر الرئيس عبدالناصر، أن التحالف المنقوص مع الروس، قادر على حماية البلاد، ولكنه تلقى هزيمة مريرة فى يونيو 1976، سرعان ما وعى خليفته الدرس، واتجه للتحالف المباشر مع واشنطن، وعقد سلاماً مع إسرائيل، ولكن مجمل التفاعلات الداخلية والخارجية أودت بحياته.
أما الرئيس مبارك، فلم يكن يطمئن إلى الأمريكان، ويضعهم مع الإسرائيليين فى خانة الأعداء، وحصَن نفسه، بصداقات أوروبية عديدة مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، دون أن تغره هذه الصداقات.
وذهب الرئيس مبارك، حين تغير العالم من حوله، فلم يكن الرجل ومصر قادرين على التواكب مع العالم الذى يتبدل بسرعة، وأظن أننا فى حالة أسوأ مما مر به مبارك، إذ تبدو القيادة فى مصر غير قادرة على فهم ما يحدث فى العالم والتعاطى معه.
تفتقد مصر وقيادتها، وجود كوادر فى جميع المجالات وعلى جميع المستويات الدنيا منها وفى مستوى القيادات المسؤولة عن رسم السياسات العامة، هذا إذا كان فى مصر من يفهم كيفية صناعة سياسيات عامة فضلاً عن فهم الفكرة نفسها.
وتمتد حالة عدم الفهم والقدرة على التعاطى مع القضايا الاستراتيجية، إلى المعارضة، التى تهتم فقط بانتقاد النظام وسياساته، دون تقديم رؤى وأفكار قائمة على تصور واقعى، حيث تفتقد هذه الأحزاب والحركات إلى وجود مراكز للأبحاث، يمكن أن تمثل عقلا إضافيا، للعقول الرسمية سواء فى مجلس الوزراء أو أجهزة المعلومات، وتنطلق الرؤى الناقدة من جانب المعارضة من تصورات رومانسية عن العالم، ومثالية فى أغلبها، مع قدرة على الجدل.
«4»
تمسك الرئيس السيسى، بضرورة الحفاظ على الدولة الوطنية، وطرح هذه الفكرة فى عدة خطابات وأحاديث على مدى الفترة الماضية فى حكمه، وهو مفهوم يتصادم بوضوح، مع ما يجرى فى العالم، منذ سنوات، حيث تأكد أن هذه الفكرة عن طبيعة الدولة، انتهت إلى غير رجعة فى المدى المنظور.
خطورة هذا التصور، أنه يجر على مصر، مشكلات كثيرة، ويخلق لها أزمات ويضعها فى معارك، لأنها تحاول الحفاظ على حدودها، وعلى شكل حياة معين لمواطنيها، رغم أن الحدود الوطنية سقطت منذ سنوات، ومن مظاهرها، مراجعة حالة حقوق الإنسان فى مصر، وانتقاد نظامها السياسى وممارسته، وغيرها، مما لم تعد تشكل تدخلاً، بالمفهوم الجديد للدولة، فى عصر ما بعد العولمة.
ويمكن أن تكتشف أن المعارضة التى تتعامل مع الخارج، تعتنق نفس فكرة الدولة المصرية، وترفض ما تسميه «التدخل الخارجى»، رغم أن فصائل عدة منها ظهرت فى الوجود وتضخمت، بفضل هذا التدخل، تستمد منه جزءا من قوتها، وتعرف جيداً أنه لولا ضمور فكرة الدولة الوطنية لما استمرت هذه القوى فى الوجود.
هل يمكن أن تراجع مصر استراتيجيتها، وتحدد أعداءها وخصومها وأصدقاءها، يمكن بالطبع إذا توفرت إرادة وفهم، وإذا جرى حوار على مستوى عال فى النخبة المصرية، يتسم بالمكاشفة والشجاعة.
وفى جميع الأحوال يجب أن توجه القاهرة، ضربة مؤلمة إلى الطرف أو الأطراف التى تحاول إيلامنا، كى تفهم أن لحم مصر مر.
Gaafer.samy@gmail.com