التقطت إسرائيل خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى مرحبة بفتح صفحة جديدة من الوساطة بينها وبين الفلسطينيين في عملية السلام، وسرعان ما أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وزعيم المعارضة إسحق هيرتسوغ عن تأيدهما لمبادرة الرئيس السيسى وكأن المبادرة جاءت لإنقاذ ما تبقى من الفتات الذي ألقت به إسرائيل للفلسطينيين، فمع تزايد الانتكاسات التفاوضية بين الطرفين عاما بعد عام وتضاؤل فرص السلام واليأس الأمريكى الداعم والراعى الأول للمسيرة السلمية من التوصل إلى تسوية حقيقية، فجأة يدب الأمل في شرايين الجسد الميت منذ سنوات فما الذي استجد؟
هل هو حديث السيسى عن السلام الدافئ وبشكل مباشر لأول مرة منذ توليه الحكم وتوجيه كلامه للجمهور الإسرائيلى ملمحا عما أحدثته مبادرة كامب ديفيد للطرفين من هدوء في المنطقة؟ أم أن هناك طبخة تطهى في المطبخ السياسى بعيدا عن أعين المتربصين؟ قيل إن الاهتمام الاستثنائى الذي جعل الرئيس السيسى يتوجه مباشرة إلى وسائل الإعلام الإسرائيلى هو ثمرة تنسيق مسبق، وأن حديث السيسى عن السلام يحمل في طياته مخاوف من أن يحمل صيف 2016 مفاجآت لم تكن في الحسبان، لكن ما هو المغزى الحقيقى من هذه المبادرة والجميع يعرف جيدا أن عملية السلام قد دفنت للأبد، وأن إحياءها مجرد أمل بعيد المنال، ليس لأن طريق السلام محفوفا بالمخاطر فحسب، ولكن كون إسرائيل أغلقت الطريق أمام التسوية تماما وأغلقت الباب أمام حل الدولتين للأبد واعتبرته غير موجود، إذن لماذا استقبلت إسرائيل المبادرة بهذه الحفاوة وعن أي سلام يتحدثون؟!
إسرائيل تدرك جيدا أنها في مربع القوة والاسترخاء أي بعيدة عن بؤر التوتر والاشتعال في المنطقة، وأنها غير مضطرة لدفع أثمان مقابل السلام الوهمى مع الفلسطينيين، وأن ترحيبها بالمبادرة هو كلام مرسل لا يغنى ولا يسمن من جوع ولن يكلفها أي التزام، خصوصا أن الرئيس السيسى لم يحدد طبيعة المبادرة بل كانت عامة، لكن الجديد الذي طرأ أن المبادرة لم تأت من الفراغ بل جاءت بالتزامن مع تشكيل حلف استراتيجى بدأ يتبلور في المنطقة وتتضح معالمه جليا يضم مصر والسعودية والأردن كتحالف سنى في مواجهة إيران، هذا التحالف الذي بدأ يبلور سياساته الجديدة من خلال تحسين العلاقات مع إسرائيل، ربما كنوع من الاسترضاء لأمريكا التي بدأت تكشر عن أنيابها تجاه السعودية بالضغط عليها والتلويح بفرض العقوبات خاصة بعد إقرار الكونجرس الأمريكى تورط المملكة في هجمات 11 سبتمبر، وذلك بالتزامن مع تحسن العلاقات السياسية من إيران العدو اللدود للسعودية، وبالنسبة لمصر فالموقف الأمريكى واضح لا يحتاج تفسيرا.
إسرائيل مطمئنة وتعلم أن هذه الخطوة سبقتها سلسلة تنسيقات سرية بين القدس وعمان والرياض، لذا كان الرد الإيجابى السريع الذي أصدره بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى وإسحق هرتسوغ زعيم المعارضة نابعا من عدم المفاجأة مما أعلنه السيسى، كما أن هذه الفرصة بالنسبة لإسرائيل مرتبطة ضمن أمور هامة أخرى مثل عضوية مصر المؤقتة في مجلس الأمن، لأنها قلقة من تنفيذ الرئيس الفلسطينى محمود عباس تهديداته في أواخر حياته السياسية فيبادر باتخاذ خطوات أحادية الجانب قبل التوجه إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة مطالبا إنهاء الاحتلال، أو رفع دعوة جنائية ضد حكومة إسرائيل في لاهاى على ارتكاب جرائم حرب، أما ما يقلق الرئيس السيسى فيتعلق بالخيارات المحدودة أمامه فمن جهة تأجيل مؤتمر باريس الذي كان سيبحث في المبادرة الفرنسية لإحياء المسيرة السلمية، وهى المبادرة التي لاقت حماسا في رام الله ورفضتها إسرائيل، كذلك انتهاء ولاية الرئيس الأمريكى باراك أوباما واحتمال فوز دونالد ترامب، ومع فوزه ستدفن نهائيا أي تسوية تتضمن تنازلات إسرائيلية، فضلا عن أن مبادرة ترعاها مصر سيكون لها الصدى الأكثر تأثيرا وبالذات في تأمين جبهة سيناء للقضاء على الإرهاب.
لقد تعهد الرئيس السيسى في كلمته بتقديم ضمانات لكلا الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى بتحقيق الأمان والاستقرار، وطالبهم بتوحيد صفوفهم، والسؤال ماهى الضمانات وكيف؟!
فبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن القاهرة قد رعت مباحثات وحوارات لا حصر لها لرأب الصدع بين حماس والسلطة الفلسطينية وإنجاز المصالحة وفشلت، والحديث عن المصالحة بين الخصمين لا يعدو كونه انتهازية سياسية يستثمرها كلا الطرفين لتحقيق مكاسب تخصهما وحدهما، فما الجديد الذي سيطرحه السيسى لإغراء الطرفين بالتوقيع على مصالحة نهائية؟! وما الثمن الذي ستقبضه إسرائيل مقابل تقديم تنازلات لإنجاز السلام؟ هل الثمن هو التطبيع العلنى الرسمى؟!
لقد عجزت مفاوضات أكثر من اثنين وعشرون عاما برعاية أمريكية أن تجبر إسرائيل على التنازل عما تراه حقا لها؟! الولايات المتحدة الراعية لعملية السلام والداعمة لإسرائيل ماديا ومعنويا، لم تستطع إقناع إسرائيل بالتوصل إلى حلول مرضية على الأقل على قاعدة اتفاق أوسلو عام 1993، بل كان الفلسطينيين منذ ذلك التاريخ وحتى الآن يخسرون الجولة تلو الأخرى في ماراثون المفاوضات العبثية، حتى وجدوا أنفسهم يسبحون في سراب الوهم الإسرائيلى الذي سحب البساط من تحت أقدامهم بعد أن أعلنها نتنياهو صراحة أنه لا يوجد ما يسمى بحل الدولتين، كما أن الدول العربية منشغلة بمشاكلها الداخلية والإقليمية وليست مهيئة أو حتى مستعدة أن تولى القضية الفلسطينية اهتماما كان منذ البدء منسياً!!.