لست من الناس الذين يعجز حتى الموت عن إجبارهم على السكوت.. هؤلاء الذين يملكون قدرة هائلة على استغلال كل وأى شىء لدوام كلامهم واستعراضاتهم وسخريتهم ومواصلتهم الرقص والإيحاء للآخرين بأنهم يعرفون كل شىء ويفهمون كل شىء..
وما يجرى الآن فى الإعلام التقليدى بكل أوراقه وشاشاته أو الإعلام الجديد، ممثلا فى شاشات الكمبيوتر والتليفونات وصفحات التواصل الاجتماعى، هو مجرد دليل جديد على تضاعف أعداد هؤلاء الناس الذين لست منهم.. فالطائرة المصرية التى سقطت فى الماء أمس، وسقطت معها قلوب ووجوه وأحلام وأعمار وبيوت.. تحولت بالنسبة لهؤلاء الناس إلى مجرد ساحة جديدة للرقص والاستعراض..
لا أحد منهم لديه أى وقت أو استعداد لقليل من الحزن ومن السكوت.. سارعوا بتقديم تحليلاتهم وتفسيراتهم وهم فى بيوتهم ومكاتبهم.. رفعوا لافتات كثيرة تحمل مجرد عناوين.. إرهاب أو إهمال أو أعطال فنية أو خيانة أو مؤامرة أو عدوان عسكرى.. وراح كل واحد يحمل لافتته وعنوانه وجرى يخترع ويتخيل حكايات وأدلة ووقائع تؤكد عنوانه وتفسيره.. والذين كانوا بالأمس خبراء فى التاريخ والملاحة البحرية حين كان الحدث هو تيران وصنافير.. الذين كانوا بالأمس خبراء اقتصاديين يحللون أسباب ارتفاع سعر الدولار، وكانوا أمس الأول سياسيين متخصصين فى الشأن السورى.. أصبحوا منذ أمس الأول خبراء قدامى فى الطيران والملاحة الجوية بعد سقوط الطائرة المصرية..
فقد أصبح عيبا وعارا فى مصر اليوم أن يقول إنسان إنه لا يعرف.. أو يصغى إنسان لحديث دائر حول خبر وحدث وقضية ويكتفى بالسمع دون لهفة المشاركة بالتعليق والتحليل وإبداء الآراء والأحكام النهائية القاطعة مع تأكيده التلقائى بأن كل ما يقال هو مجرد أكاذيب وكلام فارغ لأنه وحده الذى يعرف الحقيقة وأسباب الذى جرى..
وعلى الرغم من فوارق كثيرة بين مأساة سقوط الطائرة وأزمة حسام غالى مع الجهاز الفنى للمنتخب الأول فى كرة القدم.. إلا أن المشترك بينهما هو سلوك الناس وردود أفعالهم أمام الخبر.. ففى حادثة الطائرة تظاهر الجميع بالحزن الزائف فى بداية الكلام، ثم جرى إبعاد الذين ماتوا جانبا لتبقى البطولة كلها لشهوة الكلام والتفسير..
وفى أزمة حسام غالى تظاهر الجميع بالقلق على المنتخب المصرى الكروى وضرورة تجنيبه أى أزمات حتى يتأهل لنهائيات أمم أفريقيا وكأس العالم أيضا ثم جرى إبعاد المنتخب كله جانبا ليقتصر الحديث إما عن حسام غالى المجرم والمشاغب وفاسد الأخلاق الذى لابد من استئصاله، أو حسام غالى الموهوب والمتألق الذى يمكن التضحية بالجهاز الفنى الفاشل والضعيف والمرتبك أو بعض أفراده ليبقى غالى مع المنتخب..
فى الحالتين نعرف أن هناك شيئا جرى.. لكن ليس من الضرورى أن نصبر ونتعب ونسعى لنعرف أى أسباب حقيقية لما جرى وكيف جرى.. المهم أن نصبح كلنا ترزية تفاسير لنعيد تفصيل الخير والحكاية حسب مقاسنا نحن وبالشكل والألوان التى ترضينا وتوافق مزاجنا وهوانا وقناعاتنا.. سواء كنا مع إدارة الدولة أو ضدها.. أو كان لوننا الكروى هو الأحمر أو الأبيض.