دعانى المايسترو هشام جبر إلى حفل موسيقى فى دار الأوبرا يوم السبت الماضى، ترددت فى الذهاب، وسألت نفسى: هل هذا وقت الموسيقى والقاهرة تحترق والأعصاب عارية والنفوس ضاقت حتى كادت تختنق؟
فى النهاية حسمت أمرى وذهبت أملا فى الخروج من ضيق الأفق السياسى إلى رحابة الموسيقى.
كان برنامج الحفل متنوعاً بين مقتطفات من موسيقى: المصرى عزيز الشوان، والروسى رحمانينوف، والتشيكى ديفورجاك «الذى تحتفل الأوبرا المصرية بمرور 175 عاما على مولده»، وتألق عازف البيانو المصرى العالمى وائل فاروق مع موسيقى رحمانينوف.
بعد ساعتين من الاستمتاع بصوت الموسيقى تمنيت ألا تتوقف.. وكأنها تعزف على أوتار روحى وتأخذنى إلى الأعالى، تعلقت بأستار السماء، وكدت أدلف إلى الفردوس الأعلى وأصل لمرحلة الذوبان والفناء التى تحدث عنها الصوفيون.
كنت أتابع عصا «جبر» البيضاء وتعلق عيون العازفين بحركاتها، عندما تذكرت مشهدا من فيلم «ستيف جوبز»، تحدث فيه عن المايسترو اليابانى العبقرى «سيجى أوزاوا»، الذى التقى به فى مركز تانجالود الموسيقِى، وسأله عن دور المايسترو، فرد «أوزاوا» بحكمة: «الموسيقِى يعزف الألحان وأنا أعزف الأوركسترا».
عبارة المايسترو اليابانى لم تغادر ذاكرة ستيف جوبز، واستخدمها فى الرد على زميل بدايته فى التكنولوجيا «وزنياك» حين جاءه غاضبا من تجاهله عمله وعدم الإشادة بكفاءته علانية قائلا: ما الذى فعلته؟.. اللعنة عليك يا رجل، لا يمكنك كتابة رمز، لستَ بمهندس ولستَ بمصمم، ولا يمكنك دق مسمار بمطرقة، كيف يُعقل إذن أن أقرأ عشر مرات فى اليوم «ستيف جوبز» عبقرى، ما الذى تفعله؟
وهنا استعار جوبز الجملة الحكيمة للمعلم قائلا: «أنا أعزف الأوركسترا، وأنت موسيقِى مميز».
المايسترو «المعلم، السيد بالإيطالية» هو الرجل الذى يكتشف مهارات العازفين وأعلى نقطة لديهم، وطبقا لرؤيته يوزع النوتة الموسيقية عليهم، لتخرج المعزوفة بأروع أسلوب.
والـ«مايسترو» مطلوب فى كل مناحى الحياة، دائما هناك «سيد» أو قائد، ليس عمله أن ينفذ ولكن أن يجعل المنفذين يُخرجون أفضل ما لديهم طبقا لرؤيته المبتكرة والإبداعية.
وأكبر خطأ يمكن أن يقع فيه قائد أن يختار شخصا غير مناسب لمنصب ما، لأنه لا يمتلك الرؤية.
هناك قصة شائعة عن جاسوس روسى كان يعمل لحساب أمريكا أثناء الحرب الباردة، وكان مستشارا للرئيس الروسى فى ذلك الوقت، والمثير للدهشة أن هذا الرجل كان من أكثر السياسيين السوفيت تفانيا وإخلاصا فى العمل، والجميع تفاجأ عندما تم اكتشاف أنه يعمل لحساب المخابرات الأمريكية، وعندما سألوه عن أهميته لـ«سى. آى. إيه» قال إن عمله كان ينحصر فى اختيار الموظف الأسوأ والأقل كفاءة، بمعنى أن يختار دائما الرجل غير المناسب للمنصب، هذه الاختيارات الخاطئة المتراكمة ساعدت فى تفتيت وإضعاف الاتحاد السوفيتى من الداخل، وقضت على أى بادرة للبناء وأيضا على الأمل فى النفوس.
بغض النظر عن مدى صدق أو كذب هذه الأمثولة، فالنتيجة حقيقية دائما، الاختيار السيئ يؤدى لسلسلة طويلة من الفشل تنتهى بالسقوط فى هوة الأزمات والإخفاق، وهو ما يحدث فى مصر حتى الآن، الاختيارات تتم على معايير بعيدة تماما عن التميز والمهارة والإبداع، وللأسف انتقل هذا المرض من دواوين الحكومة إلى القطاع الخاص والإعلام جزء منه.. والنتيجة نشاز يُفرض علينا.
مصر تفتقد للمايسترو، صاحب الرؤية الواضحة فى خياله، الذى يرى المستقبل حاضرا سهل المنال، وهناك فرق بين العبقرى وبين صاحب الهلاوس، فالعبقرى تثبت الأيام صحة نظريته التى تحقق نتائج مبهرة تنقل العالم لواقع أفضل، أما المريض بالهلوسة فتكتشف جنونه مع الزمن، فلا نتائج لهلاوسه، وإن حدث تكون أسوأ.
هذا العزف النشاز الذى نعيشه يؤكد غياب المايسترو فى مجالات حياتنا، بل إن معظم العازفين الذين استولوا على المسرح ليسوا سوى مجموعة من الأدعياء.. لذلك نعانى من الضجيج وننتظر صوت الموسيقى.
ektebly@hotmail.com