غداً، الخميس 19 مايو، سيوافق الذكرى التاسعة والثمانين لميلاد يوسف إدريس، وبرغم قلة كتابتى عن الصداقة الفريدة معه، إلا أننى أكاد أعتبرها فوق بشرية بما كان يكتنفها من آماد روحية مع هذا العبقرى الذى أعتبره أنفس الموهوبين فى تاريخنا الأدبى المعاصر، بحساب الموهبة الفطرية، وبحساب ما أنجزه فى ظروف لا أراها مُعيقة فقط، بل تكاد تكون قاتلة لمخلوق من أعصاب عارية وقلب متوقد كيوسف إدريس. وقد باح لى بشجونه فى عبارة بليغة ومرعبة عندما كان يمر بنوبة من نوبات اكتئاب تفاعلى كان طبيعياً أن يصاب به مثله فى محيط لم يكن ودياً دائماً بل مُعادياً فى أحيان كثيرة. رحت أخفف عنه شعوراً بالإحباط من الشأن العام سرعان ما كان يتحول لديه إلى إحباط شخصى فقلت له: «يا دكتور انت زعلان ليه.. إنجازك كبير، وفى مقدمة المقدمة من الأدب العربى المعاصر»، وأجابنى بأسى: «يا محمد. أنا طول عمرى باكتب زى اللى بتولد وهىَّ بتجرى»!
على امتداد صداقتنا التى بدأت عام 1973 واستمرت حتى كنت آخر مودِّعيه والوحيد من أصدقائه الذى سمحت له الأسرة الكريمة بالتواجد بينهم فى المستشفى حتى مغادرته بسيارة الإسعاف إلى المطار فى رحلته العلاجية الأخيرة إلى لندن عام 1990، لم يحدث أن تخلفت عن أن أكون معه فى 19 مايو من كل عام لأقول له «كل سنة وأنت طيب». ومنذ رحيله وأنا أنفرد بنفسى لبعض الوقت فى هذا اليوم، أستدعى ذكراه متأثراً داعياً له برحمة رب العالمين التى أحسبها سابغة على إنسان من مخلوقاته جاهد نفسه وجاهد مجتمعه فى أن يكون صادقاً بأقصى ما يستطيع، صدق الحس والشعور الذى هو أعلى مراقى الصدق فى يقينى القلبى والعقلى والعلمى حتماً. وسأنفرد غداً لبعض الوقت مع نفسى ومع ذكرى ميلاد صديقى الرائع العزيز الراحل، وكنت قد خططت أن أضيف إلى ذلك كتابة «رحبة» عن يوسف إدريس وأدبه، عبر قراءة كتاب شديد الأهمية، آمل أن ينشره المركز القومى للترجمة قريباً، لعميدة الاستشراق الروسى المعاصر فاليريا كيربيتشينكا، أراه من أعمق ما تناول قصص ومسرح يوسف إدريس وشخصيته الإبداعية، وقام بترجمته صديقى الدكتور إيمان يحيى، ترجمة دقيقة وسلِسة، وكتب له مقدمة تنويرية ونقدية ممتازة. لكن أموراً طرأت وأطاحت بما كنت قد خططت له، فلم يُتح لى الوقت ولا الجهد اللازمان لهذه الكتابة بتأنٍّ وتأمل، فاستبدلت ما انتويت نشره بقصة جديدة لى كانت لا تتطلب غير التنقيح، وقد أراحنى أن أقوم بهذا التنقيح فى هذه الأجواء المُغبرَّة، وستكون القصة فى رحبة الغد بإذن الله.
لقد كانت الفترة القريبة الماضية مُنهكة لى أشد الإنهاك، لأننى مكثت قلِقاً على من هو فى مكانة الابن العزيز النابغ عندى، وقد أُجريت له جراحة دقيقة فى «مركز جراحة الجهاز الهضمى» بطب المنصورة، الذى رأيته مفخرة ضمن المفاخر التى ترفع الرأس لدى أبناء الكلية التى أتشرف كثيراً بانتمائى إليها. اطمأننت بعد أسبوع القلق على الابن العزيز، وكنت قبلها وبعدها أتابع ذلك الصخب السياسى والإعلامى الذى رفضته بكل أطرافه ومنذ لحظته الأولى، لهذا لم أتناوله بكلمة، وقد أضاف إلى قلقى إنهاكاً نفسياً جعلنى خارج «موود» كتابة المقال المعمق الذى يتطلب تدقيقاً ودراسة، والذى يتوخى معالجة الشأن العام ولو من زاوية مجاز بعيد المنال، أياً كان موضوعه المعرفى، وقد تحول من إحساس بأداء الواجب إلى هم ثقيل وقاتم فى ضوضاء غوغاء ما نعيشه. وفيما بدأت أستعيد طاقتى قرأت بيان المهندس «صلاح دياب» فى «المصرى اليوم» بشأن ذلك الصخب، فتجمَّعت أمامى على غير انتظار باقة مدهشة لذكرى ميلاد يوسف إدريس، تضم إليه، هو الواقعى المصرى المُجدِّد أدبياً، كُلاًّ من فاليريا كيربيتشينكا الواقعية الاشتراكية وصلاح دياب الليبرالى! وقد يبدو هذا غريباً لكثيرين؟!
على عكس ما يتصور البعض، لم تكن بداية معرفتى بصلاح دياب مرتبطة بـ«المصرى اليوم»، فقد سبقت معرفتى به صدور هذه الجريدة بسنوات عديدة، وكانت من خلال ما عرفته من محبة يوسف إدريس له وثقته فيه، حيث وضعه فى مصاف أعز أصدقائه، وكان ذلك كافياً لإثارة فضولى تجاه صلاح دياب الذى يوليه يوسف إدريس البصير هذه المكانة. وكانت الفرصة الأولى لإشباع ذلك الفضول عندما صدر كتابى «حيوانات أيامنا» ودُعيت لمناقشة الكتاب فى صالون ثقافى شهرى يتداعى إليه عدد من دكاترة الاقتصاد ورجال الأعمال المثقفين ويُعقد فى بيت كل منهم بالتناوب لمناقشة كتاب محلى أو أجنبى جديد ومثير للاهتمام، وكان صلاح دياب ضمن كوكبة هذا الصالون، تكرر حضورى هذا الصالون بعد ذلك مرتين أو ثلاثاً، ثم كانت هناك لقاءات نادرة ومكالمات أكثر ندرة مع المهندس صلاح دياب بعد انضمامى لـ«المصرى اليوم»، وأعترف بأن طبيعتى الشخصية الأميل إلى الانفراد هى المسؤولة عن هذه النُّدرة، لكن ثمة لقاءً امتد لثلاث ساعات معه فى مكتبه بالزمالك فى حضور الأستاذ طارق رضوان الشناوى لإثنائى عن قرار انسحابى من الجريدة، وخلال هذه الساعات الثلاث لم يلفت نظرى فقط ذكاء صلاح دياب فى تفنيد مبررات رغبتى فى الانسحاب، بل الذى لفت نظرى أكثر هو قصفه الذهنى البارق والفاتح لنوافذ من الأفكار المُلهِمة فى قضايا التنمية المستدامة فى الزراعة والصناعة والثقافة والإعلام تستحق أقصى الاهتمام وعميق المناقشة. وخرجت بعد الساعات الثلاث دون أن أتراجع عن انسحابى الذى امتد لخمسة أشهر، لكننى صرت موقناً فى استحقاق صلاح دياب محبة واعتزاز يوسف إدريس.
قبل أربعة أيام من كتابتى هذه السطور قرأت بيان صلاح دياب فى «المصرى اليوم» الذى يعتذر فيه عن معالجة للصحيفة لم يرها مُحايدة فيما حدث بين نقابة الصحفيين والداخلية، وذهب كثيرون من المولعين بقراءة السطوح إلى تفسير البيان كنوع من توقِّى ضربات يمكن أن تصيبه وتصيب الجريدة، وقد يكون ذلك وارداً، وهو حق إنسانى فى مناخ مضطرب ومشحون بسموم المُحرضين على كل من عداهم، تحريضاً مدمراً لمن يدرك أن الانتصار فى المعارك، سواء كانت اجتماعية، سياسية، اقتصادية، أو عسكرية، لا يكون بالقوة وحدها بل بتقليل الخصوم وتوسيع التحالفات. فليس توقِّى الشرور هو جوهر المسألة فى بيان صلاح دياب إذا أعملت قناعتى بتركيبة هذا الرجل ليبرالى الثقافة والسلوك فى علاقته بالجريدة كما لاحظت، فهو أبعد ما يكون عن التسلط كمؤسس أو مُشارك فى الملكية مع ما يخالفه من آراء تنشرها «المصرى اليوم»، لأنه على سبيل المثال مؤمن- فيما أحسب- بأسس الاقتصاد النيوليبرالى، وأنا فى كل ما أكتبه لا أخفى قناعتى بعدم ملاءمة هذا النوع من الاقتصاد لبلد فقير ونام كمصر، وأبداً لم يستفزه ذلك.
خلاصة القول هى اعتقادى أن بيان صلاح دياب جاء تعبيراً دقيقاً عن قناعاته بضرورة استقلال الصحافة «المستقلة» وتحرِّى مهنيتها، وأنها لا ينبغى أن تكون ساحات مبارزة أو حلبات مصارعة، بل صحائف للتنوير، وهو صادق فيما أبداه، وأرانى مع صدقه. ولو كان يوسف إدريس موجوداً لكان معه. ولعلِّى أضيف إلى ذلك أن ماحدث من صخب فى المواجهة الأخيرة يقول بأننا مجتمع متخلف إلا قليلاً وفى حاجة ماسة إلى صقلٍ عام، فقد كانت المبارزة رديئة الأداء من كل أطرافها. ويبقى أن الصحافة «المستقلة»- وفى القلب منها هذه الجريدة- ينبغى أن تستمر «مستقلة» لسوية المجتمع وصالحه، ولكى تستمر «مستقلة» فى مناخات يفور فيها غباء التناطُح المُتبادَل لابد أن تعتمد الذكاء، وهذا يتطلب جهداً واجتهاداً ومجاهدة، وبُعد نظر، وصلاح دياب كان فى بيانه بعيد النظر.
غدا، ستكون تسعة وثمانون عاماً قد مرت على ميلاد يوسف إدريس، أى أنه لو ظل حياً بيننا لكان يدخل بعمر مديد فى عامه التسعين، وهذا أمر يعرف كل من عرف يوسف إدريس عن قرب أنه مستحيل الحدوث لعبقرى مصرى كان يعيش بأعصاب عارية وقلب متوقد وانفعال صادق وحارق فيما يكتب وفيما يتخذ من مواقف. أوليس للصدق قيمة مضافة مُستحَقة؟ أظن أن لها كل الاستحقاق فى الحساب والتحسُّب، فالصدق يُنجى إن أصاب أو أخطأ، لأن الصادقين وحدهم من يعرفون ثقافة الاعتذار عند الخطأ، وهى ثقافة نحن أحوج ما نكون إليها جميعاً، حُكَّاماً ومحكومين، خاصة عندما تكون أمتنا فى خطر، وهى فى خطر من داخلها أكثر مما يترصدها من الخارج.
كل سنة يا يوسف إدريس العزيز وأنت فى قلوبنا وضمائرنا وتوهج مشاعرنا الإنسانية والوطنية، وقد أصاب من كتب فى قريتك «البيروم» على شاهد قبرك الذى تحتضنه تلة صغيرة مكللة بمظلة شجرة سنط حانية عليك: «هنا يرقد ابن مصر البار الدكتور يوسف إدريس». ليرحمك الله رحمة واسعة، ويرحمنا.