ارفع راسك فوق أنت مصري

وليد علاء الدين الإثنين 16-05-2016 21:23

قبل سنوات طويلة، وعند وصولي إلى دولة الإمارات، شاهدت «خناقة» كبيرة للغاية في مدخل العمارة التي كنت أسكنها، بطل «الخناقة» رجل مصري هائج، ولا وجود للطرف الآخر إلا فيما يصرخ به الرجل من عبارات وما يطلقه من ألفاظ بينما يقاوم بعنف شديد محاولات مجموعة من الرجال السيطرة عليه مستخدمين ما بدا أنه أقصى ما يملكون من جهد، إلا أنه كان كالثور الهائج يتفلت من بين أيديهم ويركض مترنحًا تحت وطأة الغضب إلى أن يدركه أحدهم فيحتضنه بجهد محاولًا تثبيته.

كانت العبارة المفصلية التي يرددها الرجل ضاغطًا حروفها في مبالغة واضحة: «أنا المصري.. يعمل معايا كده.. عشان حتّة هندي معفن»، تلي تلك العبارة في الأهمية لديه عبارة: «بأه السوري الوسخ.. يعمل معايا أنا.. المصرررري.. كده عشان عيل هندي ما أستعناهوش بجزمتي».

بجهد جهيد، نجح البعض في السيطرة على الرجل وتم سحبه إلى إحدى غرف الصيانة لإنهاء الموقف بعيدًا عن أعين المراقبين.

عرفت فيما بعد أن الشاب المصري اسمه «مجدي» وهو أحد عمال صيانة البناية، تصنيفه المهني «كولي» وهو لقب تحمله تلك النوعية من العمالة الذين لا يجيدون صنعة بعينها؛ فلا هو نجار، أو سباك، أو كهربائي أو عامل سيراميك أو بنّاء محترف ليحمل اسم مهنته مسبوقه بلقب «أستاذ»، وعليه فإن دور مجدي وغيره من «الكولية» ينحصر في مساعدة هؤلاء الأساتذة في أداء مهامهم الاحترافية، إلى جانب البقاء في العمارة لإنقاذ المواقف الطارئة لحين وصول أحد الأساتذة.

ما حدث أن مهندس الصيانة «السوري» طلب من «مجدي» الذي كان مغرمًا بالإفتاء أن يصمت قليلًا ويترك «الأستاذ» ينهي عمله. لم يجد مجدي حجة يجادل بها أقوى من: «بس أنا مصري وهو هندي!»، هنا وقع المهندس في غلطته التاريخية التي حولت مجدي إلى ثور هائج لا يعرف كيف ينتقم لمصريته المهدرة، قال له المهندس السوري ببساطة بدت له استهزاءً: «شو يعني مصري وما مصري يا زلمى، هذا شغل له أصوله»، فكان ما كان من هياج نقلته لكم في بداية الحديث.

هذه الواقعة كانت أول إشارة يستقبلها عقلي، أسفرت بعد ذلك عن اهتمام بهذا النمط من المصريين الذين يتحركون داخل دائرة من الشعور الزائف بالتفوق لمجرد أنهم مصريون، منتظرين تقدير الآخرين بناء على ذلك، من دون بذل المجهود المناسب لاستحقاق التقدير وفقًا لشروطه الموضوعية، على الأقل في حدها الأدنى وهو اتقان ما يقومون به من أعمال.

ظلت واقعة مجدي حاضرة في ذهني، وكانت أساسًا لبحث طويل في هذه المساحة ومتابعة لأنماط المصريين في الغربة، أنجزت منه سنة 2006 دراسة بعنوان «صدمة الخروج من زيف الصورة الذهنية» تتبعت فيها بدايات تخلق شعور المصريين بالانتماء وتحولاته التاريخية واستغلال الحكام- غير المصريين ثم المصريين له- وصولًا إلى تلك الصورة المغلقة من الشعور الزائف بالتفوق التي تصطدم بشروط الواقع فتخلف أنماطًا غير سوية من الشخصيات؛ وحددت معنى الشعور الزائف بالفخر والتفوق بأنه ذلك الشعور غير المبني على وعي ومعرفة بمكوناته ودوافعه، وليس لأن الشخصية «المصرية» لا تمتلك مقومات التفوق أو أنها لا تستدعي الشعور بالفخر.

بعد سنوات، تردد شعار “ارفع راسك فوق أنت مصري” وهو نداء تُغْنينا شهرته عن التعريف به، وفي ظني أنه لعب الدور الأكبر في حماية «التصور المصري للحياة» ضد محاولات إذابته سواء في دولة خلافة دينية أو في دولة قومية لا تمتلك مقومات التحقق، لكن ذلك لا يعفينا من دراسة هذا الشعار وتحليله، خاصة وأنه كان- على مدار السنوات الخمس الماضية تحديدًا- مظلة للكثير من الممارسات المتناقضة.

شعورنا بمصريتنا في حاجة شديدة إلى صيانة، وإعادة تعبئته بقيمه الحقيقية؛ لنُخرجه من مساحة «التوهم الزائف» إلى مساحة «العمل المنتج».

يتضمن النداء دعوة للشعور بالعزة والفخار (مظهرها رفع الرأس إلى أعلى) ومبررها (أنت مصري)، ولكن السؤال: ما المرجعيات التي استدعت هذا الشعور الفاقع بالعزة والفخر لدى من أطلقوا الشعار ومن رددوه؟ وهو في ظني سؤال مصيري.

مبدئيًا، تشترك كل شعوب العالم في الاحساس بمشاعر الفخر بانتمائها إلى أصولها وأوطانها، فالأمر ليس حكرًا على المصريين، فهو شعور فطري مرتبط بغريزة البقاء وتحقيق الذات، يزداد هذا الشعور ويتجلى في مواجهة الآخر، وترتفع نبرته في أوقات الأزمات ولدى التعرض للخطر. وهو بذلك شعور صحي دافع للتماسك والبناء طالما ظل عند حدوده الطبيعية، وطالما تمت صيانته بالوعي والمعرفة، لأنه بغير ذلك ينقلب إلى تجليات مرضية منها العنصرية والشوفينية- تعصب غير عقلاني للوطن لدرجة التحقير من الآخرين- وهي بلا شك أدوات هدم- لا بناء- لأنها تُلغي إمكانية رؤية الموقف الحقيقي للذات في تفاعلاتها مع المحيط، وتسم الشخصية بعدم قدرة على استيعاب شروط الوجود في مسيرة الحضارة وبالتالي عجز عن المشاركة فيها ناهيك عن المساهمة فيصنعها.

من الضروري قراءة مكونات هذا النداء وطرح أسئلة مباشرة والتنقيب خلفها وصولًا إلى سؤال جامع يكون عنوانًا لمشروع عمل يهتم بتجنيب مفهوم «أنت مصري» مزالق الشوفينية أو الانعزال في أوهام التميز الفارغ من المعنى، وإعادة تعبئته بمعانيه الحقيقية، وشحن الكلمة بوعي صحيح بمكوناتها الأصيلة التي تستحق الاستعادة والتطوير والبناء عليها ليصبح المصري بحق متفوقًا بما يملك من مقومات وبقدرته على تطويرها وفق متطلبات العصر.

twitter@waleedalaa