قد يجيد هذا الشخص أو ذاك فنون المؤامرة، قد يكون فذاً فى فنون الخداع، قد يكون عبقرياً فى فنون المراوغة، إلا أنه لا يجيد أبداً التعامل مع أطفال «كى چى 2» أو التدريس لفصول المرحلة الابتدائية، أو إدارة مجموعة من العمال والموظفين، هى مسألة قدرات، تتعاظم فى هذا المجال، وتتراجع فى مجال آخر، قد تكون وراثية، وقد تكون نتيجة تعلم وتدريب، إلا أن ما يصلح فى هذا الشأن، بالضرورة لا يصلح لآخر، هذه حقيقة مؤكدة، بالتالى فإن المدير الناجح لإحدى الشركات قد يفشل تماماً فى التدريس لمجموعة من التلاميذ، والعكس صحيح.
من هنا تأتى أهمية السيرة الذاتية لشغل الوظائف القيادية بالدرجة الأولى، تراكم الخبرات هو الأمر المهم، القفز على المواقع القيادية كان سبباً رئيسياً للفشل، محترفو المؤامرات حققوا نجاحاً كبيراً فى هذا المجال، فى الوصول إلى المناصب العليا، إلا أنهم فشلوا سريعاً، لم يستطيعوا خداع الناس كل الوقت، أعتقد أنه السبب الرئيسى فى تراجع أى مجتمع، لا أعتقد أن هناك مجتمعات بلا خبرات، فقط لا تحصل هذه الخبرات على حظها الذى يجب أن يكون.
فى بلاد العالم الثالث يزدهر خبراء «التلات ورقات»، هؤلاء يشكلون فيما بينهم عصابات أو «مافيا»، لا يسمحون بثغرة تدخل منها كفاءات من أى نوع، هى سيطرة على كل المجالات تقريباً، فى الحكومات، كما فى المؤسسات، لا يقتصر الأمر على الصناعة والتجارة فقط، حتى فى المهن الدقيقة، كالطب والهندسة، هو احتكار للوظائف كاحتكار السلع تماماً، بتعبير أدق هو احتكار المؤامرة، بعد أن أتقنوا فنونها، لذا نجد هذه المجتمعات «محلك سر»، لا تتقدم أبداً، رغم إمكانياتها المادية وثرواتها البشرية.
الخطير فى الأمر هو استبعاد ذوى الضمائر الحية، لمجرد أنهم كذلك، أو لمجرد صراعات شخصية، مؤخراً تحدث معى أحد قادة هيئة الرقابة الإدارية السابقين، تم نقله لإحدى الوظائف الحكومية «شلوت يعنى» رغم كل تاريخه المشرف فى الهيئة على مدى سنوات طويلة فى محاربة الفساد، حصل على أحكام قضائية نهائية بعودته إلى عمله، إلا أن رئيس الوزراء لا يعمل على تنفيذها، كعشرات ومئات غيرها، لنا أن نتخيل أن الحكومة هى التى تعوق تنفيذ أحكام القضاء، هو دليل آخر على أن مقاومة الفساد ليست بين أولوياتنا.
فى إحدى الندوات أخيراً، سألنى أحد الحضور عن ضوابط اختيار الوزراء تحديداً، قلت هى ترشيحات شخصية بالدرجة الأولى، قد يكون ترشيح رئيس الوزراء للمنصب من إحدى الجهات نتيجة علاقات شخصية، وقد يكون اختيار الوزير نتيجة علاقات خاصة برئيس الوزراء، وقد يُفرض عليه هذا الوزير أو ذاك، وقد يعتذر عدد كبير من الكفاءات عن قبول منصب الوزير، نتيجة إلمامه بطبيعة العمل، التى لا تتيح له أبداً حرية الفكر والإبداع، هو يرى أن الفشل سوف يلاحقه، لذا قرر مواجهة الموقف مبكراً.
أعتقد أنه آن الأوان كى تكون الشفافية المطلقة هى الأصل فى مثل هذه الاختيارات، إعلان أسباب تلك الإقالة، وإعلان أسباب ذلك الاختيار، بدءاً من أعلى سلطة. لم يعد مقبولاً الترشح لأحد المناصب دون إعلان المرشح برنامجه للنهوض بهذا الموقع أو ذاك، إعلان برنامجه الانتخابى، أو برنامجه للإصلاح، أو برنامجه للعمل أساساً. لم يعد مقبولاً إعلان أحد المرشحين عدم وجود برنامج انتخابى لديه، أو عدم وجود رؤية للانطلاق، لم يعد مقبولاً ذلك الحديث الفضفاض، سوف نكون، وسوف نكون، دون أساس علمى.
معظم وظائفنا القيادية نتعامل معها للأسف بنظرية المؤامرة، نتعامل معها كأسرار حربية، نفاجأ كل صباح بإقالة هذا، أو تعيين ذاك، دون أسباب واضحة لهذه القرارات، بالبحث والتحرى سوف نجد أن هذه القرارات لم تسبقها أى دراسات من أى نوع، بل على العكس، سبقها الكثير من المؤامرات، الكثير من مخططات الخداع والمناورة، سوف نكتشف أن العلاقات الشخصية كانت الأصل فى الأشياء، ربما الشللية، ربما الأيديولوچيات، لم تكن أبداً مصلحة المجتمع، لم تكن أبداً مصلحة المهنة أو العمل.
لا يجب أبداً أن يستمر الصراع فى مصر بين أهل الخبرة وأهل الثقة، يجب أن يتحول إلى منافسة شريفة بين أهل الخبرة بعضهم بعضاً، سياسة الإقصاء لمجرد عدم انسجام الكيمياء، أو عدم توافق الأيديولوجيا، أو تصفية لحسابات سابقة، أصبحت إحدى ظواهر المجتمع، رغم الحاجة إلى كل الكفاءات، فى كل المجالات، وما أكثر تلك التى هاجرت، أو التى التزمت الصمت.
بدا واضحاً أن أحداً لا يبحث أبداً عن أسباب ما نحن فيه من معاناة، قد تكون الأسباب واضحة، إلا أنها المصالح أحياناً، والمكابرة أحياناً أخرى، وانعدام الضمير فى كل الأحوال، يجب أن نتوقف كثيراً أمام هذه الأوضاع، يحب أن نخشى على المستقبل، على الأجيال المقبلة. الاعتراف بمحدودية القدرات ليس أمراً مُشيناً، قد يكون العكس صحيحا، هذه المحدودية هى التى تجعلنا فى حالة خوف دائم من كل شىء وأى شىء، رغم ذلك نظل ننفى طوال الوقت، ونردد عكس ذلك.