فساد فى لندن!

سليمان جودة السبت 14-05-2016 21:51

حينما وصلت إلى لندن، يوم الخميس، كان الطقس مُشمساً على غير عادة العاصمة البريطانية التى تتقلب عليها فصول السنة الأربعة فى النهار الواحد!

ولكن الجو المشمس لم يكن متاحاً فى مكان آخر فى لندن، حيث كانت تنعقد، فى اليوم ذاته، قمة دولية لمحاربة الفساد، دعا إليها ديفيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية، وحضرها قادة وممثلون عن ٤٠ دولة!

وكان أطرفَ ما سبق انعقاد القمة شيئان، أولهما أن بنما التى كانت حديث العالم، قبل شهر، بأوراق الفساد الشهيرة التى تسرَّبت منها، لم تذهب إليها دعوة لحضور المؤتمر، وهى مفارقة غير مفهومة، وليس من الممكن هضمها، وإن دلت فى تقديرى على شىء فإنما تدل على أن القمة إياها لم تكن جادة كما يجب فى محاربة الفساد فى أنحاء العالم، خصوصاً الفساد الناتج عن تهريب الأموال من دول كثيرة، ومن بينها مصر طبعاً، دون دفع الضرائب المستحقة.. فالهدف الأول من نقل هذه الأموال إلى بنما، أو غير بنما، هو التهرب من دفع حق الدولة فيها، وهو حق لكل فقير من مواطنيها، لأن الدولة بدونه تعجز عن تقديم الخدمات العامة الأساسية لفقرائها.

وكان الشىء الطريف الثانى أن كاميرون كان فى لقاء مع الملكة قبل بدء أعمال المؤتمر بساعات، ودون أن ينتبه إلى أن كلامه مُذاع، قال إنه لا يعرف كيف تحضر نيجيريا وأفغانستان القمة، بينما هما الدولتان الأكثر فساداً على وجه الأرض!

وعندما اكتشف أن كلامه أذيع على العالم كانت مشكلة، وتوقع الذين سمعوا الكلام أن يطلب الرئيس النيجيرى محمد بخارى اعتذاراً، ولكنه كان رئيساً عملياً حقاً، لأنه قال إن الاعتذار حتى لو صدر عن كاميرون فلن يفيد أى مواطن نيجيرى فى شىء.. فالذى سوف يفيده، فعلاً، هو أن تعيد بريطانيا إلى نيجيريا الأموال الكثيرة التى هرَّبها نيجيريون إلى لندن!

وهو كلام يعيد تذكيرنا بما دار عندنا، فيما بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، عندما طالب كثيرون بإعدام كل الذين تورطوا فى الاستيلاء على مال عام قبلها، دون أن ينتبهوا، كما انتبه بخارى، إلى أن الإعدام سيكون للمضارين من الفساد عديم الجدوى، من الناحية العملية، مثله بالضبط مثل الاعتذار الذى كان من الممكن أن يقدمه رئيس وزراء بريطانيا لأبناء نيجيريا!.. فالأهم أن يعود كل مليم مسروق، وأن يفهم الذين يسرقون المال العام أنهم لن يهنأوا به، وأنهم سوف يعيدونه يوماً إلى حيث استولوا عليه.

وقد بحثت فى قائمة الدول المشاركة فى القمة عنا، فلم أجد، ولا أعرف ما إذا كانت الصحف التى نشرت أسماء الدول التى ستشارك قد تجاهلت أسماء بعض الدول المدعوة، ومن بينها مصر، أم أننا لم نحضر أصلاً.

ولكن ما أعرفه أن الجزء الأكبر من معاناة الناس فى بلادى راجع إلى الفساد فى أساسه، وأننا مدعوون إلى مقاومته بجد، ومدعوون أيضاً إلى أن تظهر دلائل هذه المقاومة أمام الرأى العام، حتى يثق فى أن مكافحة الفساد والفاسدين لدينا ليست حبراً على ورق، ولا هى كلام مناسبات أمام الشاشات والميكروفونات.

ثم إننا مدعوون إلى ما هو أهم.. مدعوون إلى أن نفهم أن للفساد أشكالاً كثيرة، ربما يكون أهونها أن تمتد يد هذا الشخص، أو ذاك، إلى المال العام.. إن هذا هو أهون أصناف الفساد، لأن هناك ما هو أعظم، وما هو أشد تدميراً لكيان الدولة ذاته، غير أن عندى فى هذا الشأن حديثاً آخر!