شطْف الجُهلاء بنار العقل

أحمد الشهاوي السبت 14-05-2016 21:51

أن تكون مؤمنًا بالفكر الحر فى الإسلام لا يعنى أبدا أنك تجابه أو تواجه أو تصارع الدين الذى تعتقده، أو أنك ضده، أو فى حربٍ تخوضها معه. وأن تُعلِى من قيمة العقل لا يعنى مطلقًا أنك ضد النقل كليةً، ولكن السؤال هو: أىّ تراثٍ ذاك الذى آخذ أو أغرف وأنقل منه دون مساءلةٍ أو حساب؟

أنا أنقل فقط من القرآن والسنَّة الصحيحة، وألتزم بسلطة الوحى، وأحاول أن أوفِّق بين النظر العقلى، والوحى الإلهى المقدَّس، ومن ثم ليس هناك خلافٌ فى جوهر الأمور، وإنما هناك اختلافٌ فى التلقِّى، ومعرفة الدين، والنظر إلى المسائل الجوهرية الأساسية لدى أهل الدين والمشتغلين بعلومه، إذْ ليس لسلطة العقل أمداء (جمع مدى) أو حدود.

فمثلى لا يختلف مع ابن تيمية عندما يقول: «المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح»، وله كتاب عنوانه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، ولكنَّ المتسلِّفين من أحفاد ابن تيمية (661-728هـ / 1263-1328م) حرَّفوا القول، وصاروا بعيدين عن العقل الصريح والنقل الصحيح، وأفسدوا العوام بآرائهم المتزمتة، وفتاواهم المتشددة، ومواقفهم البعيدة – كل البعد – عن صحيح الدين.

ولستُ مع الذين يضعون النقل فوق العقل فى كلِّ شىء، دون تدقيقٍ أو تمحيصٍ أو حتى نظر قلبى لما هو غيبى، ولا تدركه الحواس، لأن ما لا يُلمس، أو ما لا يُحس، لا يعنى بالضرورة أنه ليس موجودًا، وإلا كان الوجدان والحدْس فى مرتبة العدم، وإلا ما كان لهذه الآية ضرورة فى القرآن (الذين يؤمنون بالغيب) الآية الثالثة من سورة البقرة.

وأن تتحرَّر من ربقة الفقيه ونزعته لا يعنى أبدًا أنك ضد الفقه، لكنه يعنى فيما يعنى التحرُّر من حرفيته، وسلطانه الذى – كثيرًا – ما يشتغل طبقًا للهوى، وللسلطان السياسى، الذى عادةً ما يوظِّف الفقهاء لخدمة كرسيه، وسياساته التى تريد من الفقيه تجذيرها وتمريرها، والإعلاء من شأنها، لأنَّ السلطة عادةً لا تتخلَّى عن قناعاتها، ما دام هناك من يبرِّر لها تلك القناعات التى تخرج فى صورة أوامر وقرارات يتم تنفيذها، وفرضها على الجمهور. ونحن لا نؤلِّه التراث ولا نتدنَّى به، بل نسائله ونقرؤه بموضوعيةٍ وحبٍّ، وننخل منه ما يُجافى العقل النقدى، ويُنافى المنطق الطبيعى، وليس النخل والغربلة عيبًا أو انتقاصًا: لأنَّ الذهب عندما تشطفه النار، يتم نخله وتنقيته، كى لا تعلق به أى شوائب.

والحديث يقول: «مَا قَسَمَ اللَّهُ شَيْئًا لِلْعِبَادِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ قَائِمًا، وَرَاكِعًا، وَسَاجِدًا، وَإِفْطَارُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الْجَاهِلِ طُولَ الدَّهْرِ سَرْمَدًا، وَإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ حَاجًّا وَمُعْتَمِرًا، وَتَخَلُّفُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَفَرِ الْجَاهِلِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ غَازِيًا، وَضَحِكُ الْعَاقِلُ أَفْضَلُ مِنْ بُكَاءِ الْجَاهِلِ، وَرُقَادُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنَ اجْتِهَادِ الْجَاهِلِ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا وَلا رَسُولا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ، وَكَانَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عَقْلِ أُمَّتِهِ يَكُونُ فِى أُمَّتِهِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ اجْتِهَادًا بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَمَا يُضْمِرُ فِى عَقْلِهِ وَنِيَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللَّهِ حَتَّى عَقَلَ عَنْهُ، وَلا انْتَهَى عَنْ مَحَارِمِه حَتَّى عَقَلَ عَنْهُ، وَلا بَلَّغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ مِنَ الْفَضَائِلِ فِى عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَّغَ الْعَاقِلُ عَنْ رَبِّهِ، وَهُمْ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِى حَقِّهِمْ: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُواْ الأَلْبَابِ) سورة البقرة- آية 269، من حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَأَبِى الدَّرْدَاءِ. وما أكثر الجهلاء فى زماننا، وهم ثقلاء من فرط الجهل الذى يحشو نفوسهم وعقولهم، وهذا الحديث يجعلنى أستذكر مقولة ديكارت (31 من مارس 1596 – 11 من فبراير 1650) فى كتابه الشهير خطاب المنهج أو مقال فى المنهج: (العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس)، لأنه يميز الحق من الباطل.

ومثلى يطمح أن يعيش عصرًا، يتم فيه تأويل النص الدينى لخدمة المتديِّن أو الدين أو المجتمع. الذى يعيش فيه ذلك المتديِّن، وليس لخدمة تيارٍ أو جماعةٍ، ولعن الله وطنًا يتم تقسيمه على أساسٍ دينى أوطائفى، لا يتعايش أفراده معا كمواطنين، لأن الدين لا ينفى الآخر، ولا يلغى وجوده، وتترسَّخ أخوَّة الوطن بدلا عن أخوَّة الدين.

لأنه فى دولة الدين، يخسر العقل، حيث من يبتغى أن يُحرِّر العقل دائمًا ما يُواجَه بالرفض نفيًا أو سجنًا أو قتلا، إذْ دولة الدين- دائمًا- ما تُنصت إلى الفقهاء والشيوخ، وتترك جانبًا أصحاب المعرفة من الفلاسفة والمتصوفة والمناطقة وأصحاب العقول.

فمن العيب أن يحتكر مذهبٌ أو طائفةٌ أو جماعةٌ- الدين الإسلامى، والاحتكار هنا- هو عندى- احتقارٌ للديانة التى يؤمنون بها ويعتقدون.

وأن يصادر المحتكرون المحتقرون سواهم بحجَّة أنهم يختلفون عنهم فى المذهب- فقط- وليس فى الديانة، بمعنى أن الاستبعاد والإقصاء يتمَّان داخل الدين الواحد الذى لا مذاهب ولا ملل ولا فرق فيه. وأنا هنا لا أكتب عن الدين من خارجى، ولا أنطلق من حياديةٍ أو موضوعيةٍ، بل من انحيازٍ مطلقٍ حُرٍّ، لأننى ابن هذا الدين، ولا يعيب المرء كونه ليس أزهريًّا، ولا يكفى أن أكون قد تربيت فى بيتٍ أزهرى، ولكن ينبغى البحث والدراسة والفهم والاستبصار والحفر عميقًا والفحص بحبٍّ، والقراءة الواعية الدالة، لأننى لست مستشرقًا أو مستعربًا أو غريبًا، حيث لا مصلحة لى أو منفعة، سوى أن نقرأ تراثنا الإسلامى قراءةً صحيحة، وكونى- وغيرى- يشير إلى الجرائم التى ارتكبها بعض تجار الدين فى كل العصور، لا يعنى بأى حالٍ فضحًا أو هتكًا، لكنه ذكرٌ للحقيقة، وتأسيس للمعرفة، دون تبنٍ لأيديولوجيةٍ ما، أو الانحياز إلى مذهبٍ على حساب آخر، أو إلى جماعةٍ ضد أخرى، أو نقض الخصوم بل نقدهم ومساءلتهم لا اغتيالهم.

فمن يسعى إلى الفهم والمعرفة عليه ألا يُعادى، بل ينقد ويحلِّل ويجتهد فى سياق التفكير الحُر ؛ لأن مثلى يرفض استغلال الدين سياسيا أو أيديولوجيا، أو أن يكون عنصرا من عناصر الصراع بين المتحاربين، لأن الأيديولوجية تركِنُ الحريةَ جانبًا، كما أنها تنحِّى العقل من المشهد، وتُبْعِد النقد الحر عن قراءة ذلك التراث الإسلامى.

ولا أزعم أننى أمتلك حقيقةً ما، ولكننى، فقط- أجتهد فى البحث عنها، وتجليتها إذا ما كانت مخبوءةً أو مُستعصيةً، لأن من يدَّعى امتلاك الحقيقة أو القول الحق، والكلمة المنتهى، لا يمكن التعويل عليه، أو الوثوق به أو بالنتائج التى سيصل إليها، إذ تظل نتائجه مكتوبة بحبر وعلى ورق الشبهات.

وكونى أنقد ماضيًا أو تراثًا، لا يعنى، أبدًا- أننى ضد ما هو ثابت (القرآن والسنة الصحيحة)، وما عداهما ليس من الثوابت فى الدين، كما يحب أكثر الشيوخ إيهام العوام والبسطاء بتكرار مقولة (الثابت أو المعلوم من الدين بالضرورة).

ahmad_shahawy@hotmail.com