اختطفته عصابة من عصابات تجنيد الأطفال من بين أهله فى إحدى محافظات الصعيد، وسافرت به إلى القاهرة وانتهى بهم المطاف فى أحد الأحياء العشوائية التى تعج بها.. أفاق من إغماءته على مجموعة من الأطفال، من مختلفى الأعمار.. أفزعه منظرهم، كانت نظراتهم مخيفة ومرعبة.. يرتدون ملابس رثة، وبدا أن بينهم وبين الاستحمام قطيعة..
بحث عنه أهله فى كل مكان؛ فى المستشفيات وأقسام الشرطة، لكن دون جدوى.. مضت أشهر طويلة، ولم تستطع أجهزة الأمن العثور عليه.. وفى الأجواء الجديدة عاش حياة مختلفة تمامًا.. سأله كبيرهم عن اسمه فقال: شيرين، قال: أنت من الآن «بلبل».. نما وكبر وترعرع، وسط كتيبة الأطفال.. وتدرّب كثيرًا على فنون النشل، وفتح الخزائن، وخطف الحقائب.. تخصص فى النشل، حيث أبدى فيه مهارة عالية..
فقد أحضر له الزعيم طبقا ممتلئا بالماء وقام بفرد ورقة «بفرة» على صفحته، وأعطاه شفرة موسى وقال له إذا استطعت أن تقطع ورقة «البفرة» إلى قسمين دون أن تغطس الورقة، فسوف تجاز، ونعطيك الفرصة لكى تمارس نشاطك العملى، ونحن آمنون مطمئنون.. من أول يوم أثبت «بلبل» كفاءة مذهلة، فهو ينتقل من مركبة إلى أخرى كما العصفور؛ خفة ورشاقة.. ينجح مرة، ويخفق أخرى.. فى إحدى المرات، صعد أتوبيسا، وانحشر كالعادة بين الركاب.. تأملهم جيدا، واحدا تلو الآخر، محاولا تحديد فريسته، وفقا لأحدث نظريات الطب النفسى..
رأى راكبا بدا من مظهره أنه ميسور الحال، ولاحظ أنه يتحسس موضعًا من ملابسه بشكل لا إرادى وبطريقة متكررة، فأدرك على الفور أن هذا الموضع هو الهدف الذى يسعى إليه.. بدا فى التحرك داخل الأتوبيس حتى أصبح ملاصقا للفريسة.. وعند أول هزة للأتوبيس، عمد إلى ضربها فى مكان بعيد عن موضع الهدف، فإذا بأعصاب الفريسة تتجه كلها إلى موضع الضربة.. ولأن موضع الهدف يمثل فى هذه اللحظة منطقة فراغ عصبى، فقد امتدت يده إليه لالتقاطه دون أن تشعر الفريسة بأى شىء..
انتقل بسرعة مبتعدا عنها، وعند أول تهدئة للأتوبيس، قفز منه إلى الطريق، ومنه إلى شارع فرعى.. وعندما تيقن أن الطريق آمن، أخرج الشىء المسروق من جيبه، وكان عبارة عن «علبة» من القطيفة.. فتحها فوجد بها ماسة كبيرة متلألئة.. وعلى الفور، قرر أن يذهب بها إلى الزعيم.. عندما رآها الأخير فرح بها للغاية.. قال وهو يقلب الماسة بين أصابعه، وينظر إليها بانبهار، هذه ماسة نادرة لم أرَ مثلها قط، وربما تساوى شيئا كبيرا.. التفت إلى من كان حاضرًا من الأتباع، وقال: منذ أن وقع بصرى على «بلبل» وأنا موقن أنه سيكون له مستقبل عظيم، وربما يخلفنى يوما ما فى هذه المهنة..
نادى على «أمين سر» العصابة، وقال: خذ هذه واذهب بها على وجه السرعة إلى محل الصاغة بحارة اليهود.. سوف تجد صاحبنا داوود هناك، قل له إنك آتٍ من ناحيتى.. لا تدع أحدًا يشعر بك، وانتهز فرصة فراغ المحل، وحاول أن تنتهى من المهمة، وسوف أكون فى انتظارك.
نزل الرجل الفريسة (واسمه سعيد) صاحب الماسة من الأتوبيس فى إحدى المحطات، وضع يده على جيبه، فاكتشف أن العلبة القطيفة بما فيها قد سُرقت.. كاد أن يقع على الأرض من هول الصدمة، لكنه تماسك..
حار فيما يفعل.. ذهب إلى أحد أقربائه وكان صاحب محل أثاث فى أحد الأحياء المشهورة بالقاهرة.. حكى لقريبه ما حدث، فقال له (معنفًا): كيف يا رجل تركب أتوبيسا ومعك هذه الماسة؟ لماذا لم تركب تاكسيا؟ عموما، أنا أعرف هنا فى الحى «شيخ منصر» متخصصا فى مجال النشل، وربما يكون السارق أحد أتباعه..
قال وهو يهمّ بالوقوف: هلمّ بنا إليه، ولعله يكون فى منزله الآن.. استأذنا فى الدخول عليه، فأذن لهما. وعندما جلسا، سأل عن سبب الزيارة، فحكيا له القصة.. سأل «شيخ المنصر»: أى أتوبيس كنت تركب؟ قال «سعيد»: الأتوبيس الذى يسير بين حى كذا وحى كذا.
قال شيخ المنصر: هذا الخط لا يتبعنى، وإنما يتبع الشيخ «حمود».. ثم استطرد قائلا: دعونى أذهب إليه للوقوف على الأمر، وأتمنى ألا يكون الرجل لم يتصرف فيها.. وفى الليل، زار «شيخ المنصر» صاحبه، وعلم منه أنه فعلا تم التصرف فى الماسة، وأنه سوف يحاول جاهدا تعويضه عنها قريبا.. ولما عاد، التقاه «سعيد» وقريبه، وعلما ما انتهى إليه الأمر.. قال «سعيد»: وما العمل الآن؟ رد «شيخ المنصر»: تريد رأيى، الأمل فى استردادها ضعيف.. نصيحتى إليك أن تستعوض ربك فيها..