(1)
حكى الثور شتربة أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس، وكان له أصحاب ثلاثٌة: ذئب وغراب وابن آوى، وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جِمَالٌ، فتخلف منها جَمَل، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد، فقال له ملك الغابة: من أين أقبلت؟
قال الجمل: ضللت الطريق
* فما حاجتك؟
- ما يأمرني به الملك.
فقال الأسد: مرحبا بك بيننا.. تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب.
وأقام الجمل في رعاية الأسد زمناً طويلاً في وئام وسعة من العيش، وحدث أن الأسد خرج في أحد الأيام لطلب الصيد، فقابل فيلاً عظيماً، وحدث بينهما قتال شديد، عاد منه الأسد مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، بعد أن خدشه الفيل بأنيابه.
(2)
لما عاد الأسد ظل راقداً في عرينه لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد، وظل الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من
فضلات الأسد وطعامه، فأصابهم جوع شديد وهزال، ولما رآهم الملك الكسيح على ذلك الحال قال لهم: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون.
فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكننا نرى الملك على ما نراه، فليتنا نجد ما يأكله ويصلح عافيته.
قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به، فيصيبني ويصيبكم منه رزق.
(3)
خرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد، واتخذوا ركناً هادئاً يتشاورون فيما بينهم وهم ينظرون إلى الجمل الذي يأكل العشب ولم يتضرر من إصابة الأسد، فقالوا: مالنا ولهذا الجمل آكل العشب.. فشأنه ليس من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ فلماذا لا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟
قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أعطى الجمل الأمان، وجعل له من ذمته عهداً.
قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل عليه، فقال له الأسد: هل
أصبت شيئاً من الصيد؟
قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. أما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع، لكننا توافقنا على رأي واجتمعنا عليه، إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون.
قال الأسد: وما ذاك؟
(4)
قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً.
فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما أعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة وما كنت حقيقاً أن تتبجح فتنطق أمامي بمثل هذا القول، وتتدخل عندي بهذا الخطاب، مع أنك تعلم أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدق بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟.. وأنا قد أمنته ولست بغادرٍ به.
(5)
قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك، ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت، وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة، والقبيلة يفتدى بها أهل المصر، وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة والضرورة، لذلك نجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك الأمر، ولا يباشره بنفسه، ولا يأمر به أحداً، فنحن سنحتال بحيلةٍ لنا، سيكون فيها إصلا ح وظفر.
(6)
سكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب، فعرف الغراب أن رأيه قد وجد مكانا في عقل الأسد، لكنه يريد أن يعفي نفسه من الحرج، فذهب لأصحابه، وقال لهم: قد كلمت الأسد في أكل الجمل، على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه، ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سَلِمْنَا كلنا ورضي الأسد عنا، وبعد أن اتفقوا على ذلك، أبلغو الجمل بضرورة زيارة الملك للاطمئنان عليه والبحث عن حل لأزمته، واتجهوا معاً إلى عرين الأسد.
(7)
قال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك، ونحن أحق أن نقدم أنفسنا لك.. فإنا بك نعيش، فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ، فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً.
فأجابه الذئب وابن آوى: اسكت، فلا خير للملك في أكلك، وليس فيك شبع.
(8)
قال ابن آوى: لكنني أنا أشبع الملك، فليأكلني.. وقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتن قذر، ولا تصلح أن يأكلك الملك.
(9)
قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبت عنه نفساً، فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قال الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ.
(10)
بعد حجج الذئب والعراب وابن آوى، ظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمسوا لبعضهم البعض، فيسلم من القتل ومن الحرج أيضا، خاصة أنه لا يجب أن يكون أقل تضحية من الثلاثة، ويرد مكرمة الأسد له، فقال: أنا أصلح كطعام شهي للملك، فيه شبعٌ وري، ولحمي طيب هني، وبطني نظيف، فليأكلني الملك، فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به.
وعند ذلك سارع الذئب والغراب وابن آوى بالموافقة قائلين: لقد صدق الجمل وأثبت أنه من أصل كرم، ووثبوا عليه فمزقوه..!
(-)
يقال إنه منذ ذلك اليوم لم يخرج الأسد الكسيح للصيد، فقد عاش على التهام رعيته، بعد أن رفع الذئب والغراب وابن أوى شعارات مثل: «إدعم الغابة».
.............................................................................................................................................
* من سلسلة المقالات الرمزية – مأخوذ من حكايات «كليلة ودمنة» بدون تصرف حتى الفقرة العاشرة
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com