قصتى مع الأهرام

عبد المنعم سعيد الأربعاء 11-05-2016 21:38

كانت مكالمة الأستاذ محمد عبدالهادى، رئيس تحرير الأهرام، مفاجأة بكل المقاييس، وغلبتها الدهشة عندما طلب عودتى للكتابة فى الصحيفة الغراء مرة أخرى. أكثر من خمس سنوات مضت منذ تركت رئاسة مجلس إدارة الأهرام، وقرابة أربع منذ كتبت فيها لآخر مرة. وللحق فإن قصة الخروج من الصحيفة والمؤسسة لم تكن تجربة سعيدة بالمرة، ولا كان مشهد الذهاب بعيدا عنها وما جرى فيه من أمور ما يبعث ذكريات طيبة. وبصراحة كان هناك قدر هائل من المرارة، فلم يكن فيها آلام البعاد عن عمل استمر سبعة وثلاثين عاماً وفقط، وإنما كان فيها ما يقترب أحياناً من القتل واغتيال الشخصية.

الغريب أن الابتعاد عن الأهرام كان من ناحية أخرى إيذانا بمرحلة جديدة من الحياة المهنية الغنية، فقد دارت حياتى المهنية دائما فى مكان ما داخل مثلث «الأكاديمية» و«الصحافة» و«السياسة»، حيث عدت للأولى بإنتاجى مع آخرين لكتاب باللغة الإنجليزية عن الصراع العربى- الإسرائيلى، صدر عن مؤسسة ماكميلان وبلجريف، وقبله وبعده كتابات كثيرة ومتنوعة باللغتين العربية والإنجليزية، وتأسيس المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية فى القاهرة، الذى صارت له مكانة داخليا وعالميا خلال فترة قصيرة، ومعهد دول الخليج العربية فى واشنطن، والتدريس وإلقاء المحاضرات فى مجمع الجامعات فى مدينة بوسطن الأمريكية، والحديث فى جنبات أرقى مراكز البحوث فى واشنطن العاصمة ومعها عواصم أوروبية.

أما الثانية فقد مثلت «المصرى اليوم» التجربة الثانية لى كرئيس لمجلس إدارة مؤسسة صحفية. وبينما كانت التجربة الأولى فى مؤسسة الأهرام تعنى طبقا للأعراف والتقاليد الذائعة نهاية الطريق المهنى، إلا أن تجربة «المصرى اليوم» لم يكن سهلاً مقاومتها. كان الأمر بالتأكيد سابقة لم تتكرر من قبل، وفى الواقع لم يكن قبول العمل فى مؤسسة «المصرى اليوم» بالأمر الصعب. فأولاً: لأن العرض جاء من مؤسسة تمثل أهم الصحف المستقلة فى مصر وتحرز تقدماً مستمراً فى مواجهة الصحف القومية، ومن ثم فإن التجربة بدت شيقة ومثيرة، ليس فقط فى الانتقال من مؤسسة قومية إلى مؤسسة خاصة، وإنما من مؤسسة عرفت باقترابها من الدولة المصرية، إلى مؤسسة عرفت بالمعارضة المسؤولة. وثانياً: أن الدعوة جاءت من المهندس صلاح دياب، الذى بصرف النظر عن علاقة الصداقة الشخصية بيننا، والتى يسودها الكثير من الاحترام والتقدير، فإنه كان من فتح الباب للصحافة المستقلة فى مصر. وثالثاً: أننى رأيت ساعتها أن مصر بعد الثورة تحتاج إلى «المصرى اليوم» أكثر قوة وتعبيراً عن الأوضاع المتغيرة التى تمر بها، ومن ثم فإن المساهمة فى تعزيز وضع تلك الصحيفة بدت لى نوعاً من الفريضة لا يمكن التقاعس عنها. ورابعاً: أننى قدرت أن «المصرى اليوم» الأكثر شباباً وتآلفاً مع التكنولوجيات الحديثة مؤهلة لكى تنتقل من مجرد مؤسسة صحفية لتصبح مؤسسة إعلامية متكاملة تعمل بأحدث الطرق التى تعمل بها المؤسسات الدولية. ببساطة كان مشروع التحديث الذى كان للأهرام فى السابق لايزال يطاردنى بقوة، والآن حانت الفرصة فى مكان آخر.

فى الثالثة فإن «السياسة» فى مصر عاشت تجربتها الصعبة التى جعلت الوطن يعيش تقلبات حادة قربتنا أحيانا من الأحلام، ولكنها نزعت منها الفضيلة أحيانا أخرى فصارت كوابيس، وفى كل الأحوال ظلت القسوة ماثلة، خاصة بعد أن زادت عليها أزمات صحية حادة. ولكن بقدر ما كانت القسوة البدنية يمكن تحملها والتعامل معها، فإن الأوضاع الوطنية بدت بعيدة المنال، خاصة عندما عجزت الأمة- على الأقل حتى الآن- فى الحفاظ على ما عرف بتحالف يونيو ٢٠١٣، ولم يجر الشقاق فقط بين تيارات سياسية شتى، وإنما جرى الانشقاق أحياناً أخرى بين الكلمة والفعل، والذى جسدته الأزمة الأخيرة بين الدولة، أو بعض منها، ونقابة الصحفيين، أو بعض منها أيضا، من جانب آخر. دار الزمان دورته بحدة شديدة، وما كان من عهد الثورات أفضى إلى حالة انتظار تتناوبها حالات من التفاؤل للحظات، والتشاؤم لساعات، وبحث عن طريق هداية لبلد أضناه طول الانتظار.

هل لكل ذلك علاقة بالأهرام أو بالكتابة فيه؟ والإجابة هى نعم بالتأكيد، فربما لا توجد مؤسسة مصرية ضالعة بتاريخ البلاد، ومتداخلة فى حياة كل من مسه هذا التاريخ بشكل أو بآخر قدر هذه المؤسسة التى أقامها اثنان من المغتربين - سليم وبشارة تقلا- اللذان سرعان ما أقاما مؤسسة صحفية ظلت هى الأطول عمرا بين ثلاثة قرون، وأشد تأثيرا على الأقل بين شريحة مهمة من قادة الدولة، وصناع القرار، أو باختصار النخبة الاستراتيجية فى البلاد. هناك بعد هذا وقبله نوع من الهوى الذى يتكون عبر سنوات وعقود من العمل الذى يخلق جنسية ما من «الأهراميين»، كتلك التى تجذبك إلى أرض الوطن مهما كان السفر والترحال والبعد والبعاد، وباختصار العمل فى مؤسسات أخرى داخل وخارج البلاد. لم يكن هناك من حل لمعضلة تضارب المشاعر إلا الاتصال والتشاور مع صديق، ومن المفضل أن يكون قد مر بنفس التجربة، وقد كان الزميل والصديق محمد سلماوى، الذى تزاملت معه محظوظاً مرتين: فى «الأهرام» و«المصرى اليوم». وكان بيننا من الود والثقة ما يكفى للسؤال عما إذا كان من الحكمة العودة للكتابة فى الأهرام؟

لخص الأستاذ محمد سلماوى القصة كلها فى عبارات قصيرة، ووصل إلى لب القضية فى مفاهيم قليلة، فالأهرام- هكذا قال- مؤسسة وأفراد، والمؤسسة لا خلاف على أهميتها ومركزيتها ودورها المهم فى الماضى والحاضر، أما الأفراد فإنهم مثل كل البشر زائلون. المؤسسات لا توجع، ولا تسبب ألماً، إنما هى تعطى أدواراً، وفى حالتنا فإنه لا يوجد شرف ولا نبل مثل ذلك الذى يأتى من الكتابة والرسالة فى أزمنة حرجة. الأفراد على العكس ليس فقط زائلين، وإنما أيضا فيهم الطيب والشرير، ومر على ذهنى ساعتها ذلك القول الذى يرجع زيادة الأشرار إلى تقاعس الأخيار وصمتهم عندما يجب الكلام. وهكذا جاء القرار بالعودة مرة أخرى لكى تضاف منصة أخرى للرأى والمعرفة إلى جانب «المصرى اليوم» و«الشرق الأوسط»، وكل منهما أعطتنى المكان والمساحة التى قدمت فيها ما استطعت من أفكار. وهكذا عدت للأستاذ محمد عبدالهادى بقرارى قبول دعوته الكريمة بالكتابة مرة أخرى فى الأهرام.

نقلاً عن جريدة الأهرام