تقرباً للنظام ومزايدة عليه يقوم وزير تعليم بتكييف مادة التاريخ فى الكتب المدرسية طبقا لرغباته. وبالتالى يتحول التاريخ إلى أيديولوجيا النظام. فتضيع موضوعيته. ويقرأ المؤرخ نفسه. ويقرأ الطالب ما يسمعه فى أجهزة الإعلام وفى المدرسة. فلا يرى إلا نفسه.
وإذا كان التاريخ قد وقع فلا يمكن حذفه. فثورة 2011 لا يمكن حذفها لأن المؤرخ طبقا لتعليمات النظام السياسى لا يحب الثورات، وكما قال أحد المؤرخين الساخرين: إن حرب طروادة لم تقع! ويصل الأمر إلى حد إنكار وقوع المسيح وموسى لأن النصوص الإنجيلية والتوراتية التى تتحدث عنهما مشكوك فى صحتها كما يقول علماء النقد التاريخى للكتب المقدسة. وبهذه الطريقة يكون الوعى التاريخى ناقصا، أعرج أو منحازا. بل لا يتكون الوعى التاريخى من مجموعة متناثرة من الأخبار بلا وعى ينظمها. لذلك يتخرج الطالب حاملا بعض المعلومات دون أن ينظمها وعى تاريخى.
فمثلاً هل يمكن حذف الليبرالية من تاريخ مصر المعاصر ومن يمثلها بعد الثورة والذى رفض الإعدامات وكان نائبا للرئيس ثم غادر إلى الولايات المتحدة خوفا على حياته؟ هل يمكن بعد ثورة 1952 حذف تاريخ مصر الليبرالى قبلها منذ ثورة 1919؟.. لقد أنشئت الجامعات فى العصر الليبرالى. وعرف هذا العصر حرية الصحافة والأحزاب والمعارضة. ومع ذلك كانت تلاعب أحزاب القصر. وسيطر على حزبها الباشوات وكبار ملاك الأراضى والأغنياء. ونحن الآن نسعى للحاق بالليبرالية إلى الوراء. فالتقدم إلى الخلف، مهما اتهمت الليبرالية بأنها رأسمالية مقنعة، حزب كبار ملاك الأراضى. فلم يكن التصنيع قد بدأ بعد. أصبحت الليبرالية جزءا من الوجدان المصرى، ومنها رفعت شعارات مثل «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة». ومازالت آثار الوفد قائمة فى الاقتصاد الوطنى عند طلعت حرب، والشركات الوطنية للسينما والفنون. ومازال هو قائد الحركة الوطنية المطالبة بالحرية والاستقلال قبل 1952. فلا يمكن حذف هذه الفترة، الليبرالية، من كتب التاريخ بالمدارس لأن الليبرالية الآن تعنى الانفتاح السداح مداح.
ولا يمكن حذف الفترة الناصرية من تاريخ مصر بعد الثورة. وتعنى التأميم والتمصير والقطاع العام والتصنيع لأن العصر هو عصر القطاع الخاص، والانفتاح، فمن ناصرها فى البداية كفر بها فى النهاية. والمؤرخ يستطيع أن يقرأ التاريخ كما يشاء.
ويمكن للمؤرخ أن يكون ناصريا فيجعل الناصرية فترة واحدة منذ 1952 دون بدايتها فى صراعها مع باقى الأحزاب السياسية ودون نهايتها بعد وفاة عبد الناصر وانقلابها على نفسها، وتحولها إلى ناصرية مضادة من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التصنيع المحلى إلى الاستيراد من الخارج، ومن سياسة الدعم إلى رفعه تدريجيا باستثناء الخبز والمواد التموينية الرئيسية، ومن تحديد إيجار المساكن إلى تركها طبقا لاحتياجات السوق، ومن مجانية التعليم إلى التعليم الخاص، ومن التعليم الوطنى إلى التعليم الأجنبى، ومن مدن العمال والإسكان الشعبى إلى التجمعات فى المدن الجديدة حول القاهرة، ومن التحالف مع الشرق إلى التحالف مع الغرب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن العروبة إلى مصر أولا أو الأردن أولا أو الكويت أولا، ومن الصراع مع إسرائيل دفاعا عن حقوق شعب فلسطين إلى السلام معها والجولان مازالت محتلة، والضفة الغربية يزداد الاستيطان فيها كل يوم. فالمؤرخ الناصرى يحذف انقلاب الناصرية على نفسها فى الجمهوريتين الثانية والثالثة وهما أطول زمنا، أربع مرات من الناصرية ذاتها. والعكس صحيح إذا كان المؤرخ مضادا للناصرية فإنه ينسى الأصل. يخلط بين الجزء والكل. ويحذف واحدا من الآخر.
والإسلامى النشط الذى ليس هو بالضرورة إخوانيا لا يستطيع أن يكتب التاريخ وأن يحذف الناصرية لأنها اضطهدته على مدى أكثر من نصف قرن أو أن يحذف الليبرالية لأنه يُكفّرها ويعتبرها إلحادا لأنها لا تؤمن بالحجاب. ولا أن يحذف الناصرية لأنها لم تستطع التعايش مع الحركة الإسلامية. وكانوا على خلاف مستمر حتى وصل الأمر إلى استشهاد مفكريها فى البداية فى الفترة الناصرية مثل عبدالقادر عودة، المفكر القانونى، وسيد قطب، الناقد الأديب، الذى كتب «معالم فى الطريق» تحت أتون التعذيب يُكفّر الحكم المدنى بكل أنواعه وطالبا «الحاكمية لله» وحده، مقسما المجتمع إلى مؤمن وكافر. ولن يستطيع تغيير مجتمع الكفر إلى مجتمع الإيمان إلا نخبة مؤمنة، وهى أفكار نتيجة الاعتقال والتعذيب لم تكن موجودة لديه قبل دخول الجماعة واضطهادها. فتحول من شاعر وقصاص وناقد أدبى من مدرسة العقاد، وفى النقد من مدرسة أمين الخولى، مدرسة التصوير الفنى فى القرآن. كان من المجددين فى النقد الأدبى ضد المحافظين. فالسجن والاعتقال والتعذيب هو الذى حوّله من ناقد أدبى إلى مفكر غاضب. فالإرهاب وصف ظالم لسلوك بعض أفراد الجماعة.
والعنف الذى يظهر أحيانا هو رد فعل على عنف الدولة وأجهزتها الأمنية. لم تظهر للجماعة كتابات فكرية إلا نادرا وعلى هامشها فقد كانت مشغولة بالدفاع عن نفسها، بالوجود قبل الفكر دون أن تدرى أن حال الوجود تظهر فى الفكر سلبا أم إيجابا «أنا موجود فأنا إذن أفكر». والجماعة لها جهادها فى فلسطين عام 1948. وهناك تعرفت على الضباط الأحرار. وكانت تسبق أحيانا الجيوش العربية فى الانقضاض على العدو فى حرب عصابات لا تنتهى بمعاهدات. وتكرر الأمر فى القناة عام 1951 ضد الإنجليز قبل ثورة 1952. ولم يكن نشاط الجماعة فقط فى الجهاد بل فى العمل الخيرى الذى هم مدعوون إليه الآن، المستشفيات والجمعيات التعاونية، والمدارس، والإسكان. وكانوا أنشط تنظيم اجتماعى قادر على حشد الناس كما يظهر ذلك فى صلوات الجمعة والعيدين والمناسبات الدينية الكبرى مثل رأس السنة الهجرية. فكيف يُحذف تاريخهم وهم جزء من تاريخ مصر الحديث؟
ويُقال نفس الشىء على باقى التشكيلات السياسية فى مصر مثل مصر الفتاة. فهناك مؤرخ لا يعترف بها لأنه كما يقول تنظيم متطرف يقوم بالاغتيالات مهما كان دوره فى الحركة الوطنية. وأسماء شهدائهم معروفة. ولا يريد المؤرخ الاعتراف بهم كجزء من تاريخ مصر الحديث. ومن ثم تكون بيد المؤرخ مقصا لحذف ما لا يروق له. فتتحكم الأيديولوجيا فى التاريخ. ويتخرج الطالب بوعى تاريخى مشوه.
والتاريخ لا يُكتب إلا بلجنة دائمة من كل الاتجاهات لا تحذف بل تزيد. هو عدسة مكبرة للأصوات وليس مصغرة لها. ولو تصورنا مؤرخا يمينيا يريد أن يحذف ثورات عرابى 1882، وثورة 1919، وثورة الضباط الأحرار 1952، وثورة الجماهير 2011، فماذا يبقى من تاريخ مصر الحديث؟
هذا تحليل مباشر كيف يُحذف التاريخ. لا يعتمد على كتب العلوم السياسية بل على تحليل مباشر للواقع المعاش دون نقل أو تقليد. فالتاريخ ليس أخبارا متراصة يُحذف منها ويُضاف بل هو الوعى التاريخى الكامن وراء هذه الأخبار.