الميزان في مسألة صنافير وتيران (3-5)

وليد علاء الدين الثلاثاء 10-05-2016 13:12

كلما رأيت اثنين متخاصمين حول مصرية أو عدم مصرية جزيرتي صنافير وتيران إلى حد تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، تذكرت الفنان الجميل سليمان نجيب «سي حسونه بيه» في فيلم «الآنسة حنفي»، وهو يردد بحرقة: «آآآآآخ لو كنت خَدْت الوصل».

الرجل يتحدث بيقين مطلق عن حقه في ثروة ما، ولكنه لا يملك الإيصال الذي يُثبت ذلك، لذلك فإن الجميع في الفيلم يتعاملون معه باعتباره «مجنونًا».

نحن بلا أدنى شك نحتاج دائمًا إلى أن نُظهر «الوصل» الذي يثبت صحة رأينا، لأن المثل يقول «إذا كان المتكلم مجنون...»، فعلى المستمع أن يكون عاقلًا ولا يصدق من دون أن يرى «الوصل».

هاشتاج شهير له مريدون كُثّر يقول إن صنافير وتيران «مصرية»، عندما تتصفحه لا تجد أكثر من شتائم وسباب وتخوين لكل من يرى عكس ذلك، وسط هذا الزحام، ربما تعثر في مقالة أو دراسة أو صورة لخريطة غير موثقة أو مجتزأة من سياقها، معها كذلك شتيمة من العيار الثقيل لكل «غبي حمار لا يؤمن– بعد ذلك- بأن الجزيرتين مصريتين».

في المقابل، ثمة كتابات كثيرة تحاول إثبات العكس، ولكن أصحابها تمامًا مثل «سي حسونه بيه» لا يملكون «الوصل»، وفوق ذلك يفتقرون إلى حضوره الكوميدي البهيج وأدائه التمثيلي الراقي.

-2-
في المقالة السابقة استعرضت ما كتبه الصحافي الأستاذ أحمد النجار بوصفه «كتابة مدفوعة بالعاطفة» انطلق فيها من قناعة مسبقة ومغلقة بأن جزيرتي تيران وصنافير مصريتين، مع وعد بأن يُثبت ذلك- عبر المقال- من خلال استعراض حزمة من الحقائق التاريخية وغيرها. إلا أنه لم ينجز سوى خطاب اختلطت فيه المعلومة المجتزأة بالعاطفة الجياشة والكلام المرسل.

في المقالين المتبقيين من هذه الخماسية- التي لا تهدف لنفي أو إثبات ملكية الجزيرتين وإنما تحليل النماذج الثقافية والفكرية الناتجة عن قضيتهما- سوف أتفرغ لتحليل عينات من تعليقات القراء وزوار البوابات والمواقع والصحف الإلكترونية فيما يتعلق بالموقف من قضية الجزيرتين، وهي تعليقات فيها الكثير مما ينطبق عليه المثل الشعبي البليغ: «همّ يضحك وهمّ يبكي».

ولكنني في هذه المقالة- كما وعدت- سوف أجتهد في عرض محاور دراسة الباحث الدكتور وائل إبراهيم الدسوقي، باعتبارها- كما أرى- كتابة تتمسك بأهداب الموضوعية والبحث العلمي في مقابل نموذج الكتابة المدفوعة بالعاطفة.
بعد نشر المقال السابق، وصلني من وائل الدسوقي تصحيح يرجوني أن أنتبه إليه، يقول: «غيّر صفتي خليها الباحث أفضل؛ لأن المؤرخ اصطلاحًا هو اللي كتب معاصرًا للأحداث، لكن إحنا باحثين فقط»، ولأنني لم أستطع تغييرها في المقال الذي تم نشره، فقد قررت أن أُشير إلى الأمر هنا، تقديرًا لصاحبه ولفكرة التفرقة الدقيقة بين المؤرخ والباحث.

-3-
إذا كان «المكتوب يبان من عنوانه» وهي القاعدة التي سبق المصريون إليها أصحابَ الدراسات السيميائية المعاصرة، فإن عنوان دراسة الدسوقي: «عن أزمة تيران وصنافير- خلفية تاريخية»، يوحي بأن الكتابة ليست منقادة بعاطفة ما أو ساعية إلى ترجيح كفة رأي على حساب آخر.

كما أن العتبة الثانية للمقال- وهي المقدمة- تحدد بوضوح اختياره كباحث الموقف الوسط بين الفئتين «المتناحرتين»، مؤكدًا أحقية كل فئة «في محاولة إثبات رأيها بكل السبل... بإبراز الخرائط القديمة والوثائق المتاحة»، ولكنه يرى معنا أن الأمر تحول إلى «سباب وتجريح وطعن في وطنية من وجد عنده ما يثبت أنهما تابعتين للمملكة» وأن «الإعلام المصري في المقابل انبرى لاتهام المعارضين الغاضبين بالخيانة والعمالة لدول أجنبية، وأنهم مأجورون للاعتراض على نقل ملكية الجزيرتين إلى المملكة».

في نهاية مقدمته يؤسس الدسوقي للقاعدة الموضوعية التي أشهد بأنها ستظل حاكمة لعمله حتى النهاية، وهي أنه يستعرض التاريخ لا ليحوله إلى رأي نهائي حاكم، إنما ليضعه بين يدي من يهمه الأمر ليستضيء به في استكمال رأيه الذي ينبغي ألا يقوم على التاريخ وحده، وهو يحدد دوره بدقة في «توضيح بعض الأمور التي تتعلق بهذا الموضوع من خلال تخصصي في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، في محاولة لإجلاء بعض الغشاوة التي من الممكن أن تجعل طريقة تناول المعارضين والمؤيدين للأزمة أكثر تنظيمًا من الناحية العلمية، دون مكايدة سياسية من طرف تجاه الطرف الآخر».

لقد أرسى الدسوقي القاعدة الأهم في رأيي، وهي أن المعلومة لا تصنع رأيًا، إنما تساهم في صنعه، فإذا كان هذا الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر يخجل أن يرى في معرفته التاريخية فاصلًا نهائيًا في القضية.. فمن أين لهؤلاء المتخمين بيقينهم المغلق، بهذا اليقين الذي يسمح لهم– ليس فقط بالإدلاء بالرأي القاطع والحاسم- بل بتخوين كل من لا يردد خلفهم: «آمين»؟

قاعدة أخرى يرسيها الدسوقي في مقدمته، وهي تهدم أساسًا يتكئ عليه الكثيرون من أصحاب اليقين المغلق، وهو «أن التوسعات السياسية الطموحة للحكام لا تبني حدودًا» وبناء عليه فإنه «لا يمكننا المطالبة بحقوق تاريخية في سوريا والعراق ومنابع النيل واليمن وليبيا والخليج العربي وغيرها، بسبب توسع هذا الحاكم أو ذاك هنا وهناك؛ فالحدود الناجمة عن التوسعات مطاطة قابلة للانكماش والانبساط على حسب قوة الدولة أو ضعفها».

وقبل أن يختتم مقدمته ويشرع في سرد ما سماه بـ«الخلفية التاريخية» التي يراها لازمة كأحد مدخلات الموضوع، يحدد الدسوقي المرجعية التي يرى أنها قادرة على الحسم في الأمر وهي «قانون الأمم المعاصر الذي ينبذ الحروب» و«لا يعترف بالمكاسب التي تنتج عن الغزو واستخدام القوة في العلاقات الدولية».

-4-
لا غنى للقارئ الراغب في معرفة التاريخ من قراءة مقالة الدسوقي كاملة، لأنني هنا سوف أكتفي ببيان وجهة نظري في الطريقة التي يستعرض بها باحثٌ معارفه ومعلوماته من دون أن يوظفها في تعزيز قناعة مسبقة أو يقين مغلق.
تجدون الدراسة على هذا الرابط: http://goo.gl/E5S1ce
يستهل الدسوقي دراسته باستعراض حدود «ولاية مصر» الشرقية في عهد محمد على، وبداية دخول جزيرتي تيران وصنافير ضمن حدود السيادة العثمانية، وهو قبل أن يفعل ذلك يحدد السياق الذي ينبغي أن نفهم فيه هذه الحدود، وهو «سياق العلاقات (المصرية- السعودية) وعلاقاتهما ببريطانيا والدولة العثمانية بشكل خاص، والعلاقات الدولية بصفة عامة»، فالعلاقة بين الدولتين تبدأ منذ أن تأسست الدولة السعودية الأولى سنة 1818م، فمع امتداد نفوذها ليشمل بعض المناطق الخاضعة للدولة العثمانية، أمر السلطان العثماني واليه على مصر، محمد على باشا، بالقضاء على الدولة الوليدة، وقد وجد الأخير في ذلك فرصة لتحقيق بعض أهدافه الطموحة، فأسرع بإرسال قواته بقيادة ابنه «طوسون» ثم ابنه «إبراهيم» في حملتين متتاليتين إلى شبه الجزيرة العربية. تمكنا من القضاء على الدولة السعودية الأولى وتدمير عاصمتها «الدرعية» عام 1818، وأبقيا على القوات هناك لفترة من الوقت.

ومع إعلان قيام الدولة السعودية الثانية عام 1820، تولت القوات المصرية زعزعة حكمها، وتكررت محاولاتها إلى أن نجحت قوة بقيادة إسماعيل بك- تعززت بحملة قادها خورشيد باشا- في الإطاحة بحكم الإمام فيصل بن تركي، جد الملك عبدالعزيز، وتم أسره هو وأبناؤه وشقيقه في ديسمبر 1838، وأُرسلوا إلى مصر، وبقوا فيها خمس سنوات، حتى تمكن الإمام «فيصل» من الهرب والعودة إلى نجد في عام 1843. وهكذا امتدت حدود مصر «بالتبعية» إلى الخليج العربي، وشملت كل خليج العقبة غربه وشرقه، لتدخل جزيرتا تيران وصنافير ضمن حدود السيادة العثمانية تحت إدارة ولاية مصر.

لاحظوا مدى دقة الدسوقي وهو يقول: لتدخل جزيرتا تيران وصنافير ضمن حدود «السيادة العثمانية» تحت إدارة «ولاية مصر».

-5-
يستعرض الدسوقي بعد ذلك كيف استقل محمد على بحكم مصر ليصبح وراثيًا في ذريته، وكيف قَبِل -مجبرًا من الدول الأوربية بعد مؤتمر مؤتمر لندن 1840م- أن يتنازل عن كل فتوحاته في سوريا وفلسطين، وأن يكتفي بولاية عكا مدى حياته.

في تلك الأثناء أصدر السلطان فرمانًا مصحوبًا بخريطة تحدد الدولة المصرية، (وهي مفقودة الآن من الأرشيف التركي والبريطاني، ولم يعثر عليها في مصر، وأظن أن الدسوقي في حاجة لتوثيق مصدره هذا وكذلك بقية مصادر دراسته بالطبع، وهو المأخذ الوحيد الذي أراه عليها) أوضحت تلك الخريطة حدود مصر الشرقية بخط يصل بين العريش شمالًا حتى السويس جنوًبا، على أن تبدأ شرق هذا الخط حدود كل من الحجاز وسوريا، ولم تحدد الخريطة حدود مصر المائية.

ويذكر الدسوقي أن محمد على باشا لم يعترف بذلك الترسيم، وأقام حدود مصر الشرقية من رفح في الشمال إلى الجنوب حتى قلعة الوجه، لتصبح سيناء كلها وقلاع العقبة والمويلح داخل حدود ولايته.
الخلاصة الجديرة بالذكر في هذه الفترة هو أن «الترسيم الجديد لم يشمل تحديد ملكيات مصر البحرية، وبذلك أصبح كل ما هو خارج خط الحدود البرية الشرقية تحت سيادة الدولة العثمانية».

-6-
بعد هذا التأسيس الضروري، يستعرض الدسوقي ما ورد من ذكرٍ لتيران وصنافير في كتابات الرحالة، ليستخلص مما ذكره «.. . ما يعد تأكيدًا على اتصال بدو سيناء بشبه الجزيرة العربية عن طريق جزيرة تيران»، وحتى لا يُساء استخدام استنتاجه فإنه يسارع إلى ضبط السياق العلمي إذ يؤكد أن هذا «الاتصال» لا يعد دليلًا لأي من الطرفين لأنه في تلك الآونة لم تكن «الحدود السياسية عائقًا أمام ارتحال أهل الصحراء والبحر في أي بقعة في العالم»، وعلى المنوال نفسه من استقراء الشواهد يواصل عرضه لكتابات عدد آخر من الرحالة.
-7-
حسب الدسوقي، ظلت الأوضاع هادئة لمدة خمسين سنة تقريبًا، إلى أن تفجرت في عام 1892، حينما أخرج فرمان تولية الخديو عباس حلمي الثاني، شبهَ جزيرة سيناء من حدود ولايته، فتنبهت كل من بريطانيا ومصر إلى خطورة هذا الوضع، وأثيرت أزمة كبيرة بين بريطانيا وتركيا، ولم يعلَن هذا الفرمان حتى وردت برقية التصحيح من «جواد باشا» الصدر الأعظم بالآستانة، مؤكدًا أن الأمر لم يكن مقصودًا، وأعقب ذلك قيام الخديو بزيارة بعض المناطق في سيناء تأكيدًا لسيادة مصر عليها.

ويؤكد الدسوقي أن «أيًا من الفرمان المذكور وتصحيحه لم يُشر إلى جزيرتي تيران وصنافير من قريب أو بعيد»، وهو يفسر ذلك بأن «الهدف لم يكن ترسيمًا لحدود الولاية (مصر) بقدر ما كان وسيلة لإحراج حكومة لندن، بعد وعدها للسلطان العثماني بالجلاء عن مصر فور انتهاء سبب الاحتلال وعدم الوفاء به». فقد كان الفرمان إشارة إلى أن سيادة السلطان العثماني ليست شكلية.

-8-
ينتقل الدسوقي بعد ذلك إلى أزمة طابا التي أثيرت سنة 1906م، ولكي يضعها في سياقها كعادته فإنه يعود بالتاريخ إلى بداية عام 1905، حين «ظهرت في الأفق احتمالات قيام مواجهة عسكرية داخل القارة الأوروبية؛ فتزايد التقارب التركي الألماني، مما أدى إلى قلق الساسة في بريطانيا من احتمالات نشوب أية عمليات عسكرية يمكن أن تؤثر على قناة السويس، فبرز إصرار بريطانيا على تحديد الحدود الشرقية بشكل أوضح، في الوقت الذي أرادت فيه الدولة العثمانية استعادة نفوذها في مصر. مستغلة في ذلك تصاعد المقاومة المصرية ضد الإحتلال البريطاني، ورغبتها في الالتفاف حول الخلافة العثمانية. وتفاعلت كل هذه العوامل لخلق أزمة الحدود عام 1906، فقامت تركيا بالاعتداء على علامات الحدود عند رفح، وأزالت علامتين يقال أنهما تعودان إلى مصر القديمة، لتضع بدلًا منهما علامتين تركيتين».

«وتصدى رشدي باشا قائد الحامية العثمانية في قلعة العقبة لمحافظ سيناء “الإنجليزي”، الذي كان يقوم بوضع المخافر قرب خط حدود مصر الشرقية بمنطقة رأس النقب، لمنع تهريب الأسلحة إلى داخل البلاد». كذلك «قام رشدي باشا بإرسال حامية تركية لاحتلال طابا، فأرسلت نظارة الحربية المصرية بدورها قوة بقيادة الأميرالاي»سعد بك«والإنجليزي»بروملي«لاحتلال طابا، إلا أنها وجدت أن»رشدي«سبقها، وحقنًا للدماء نزلت القوة المصرية بجزيرة فرعون على مسافة ميلين من طابا. وبذا تفجرت أزمة طابا».

“.. . كثفت بريطانيا جهودها الدبلوماسية وتهديداتها باستخدام القوة للضغط على تركيا، فاستجابت للانسحاب من طابا وإعادتها للسيادة المصرية، وتم الاتفاق على وضع الحدود الشرقية لمصر على الطبيعة صباح 4 يونيو عام 1906. وفي أكتوبر من العام نفسه تم توقيع الاتفاقية والخريطة من أعضاء اللجنتين المصرية والتركية، وتحدد خط الحدود الشرقية لمصر الممتد من طابا المطلة على ساحل خليج العقبة حتى رفح على ساحل البحر المتوسط، وقد تم وضع واحد وتسعين عمودًا، أولها عند رفح وآخرها عند طابا«.

ويعود الدسوقي ليذكّر بأن هذا التحديد «يتعلق بالحدود البرية فقط، ولم يشمل الحقوق المائية وملحقاتها»، وهو ما رأى فيه إغراء «شجع الدولة العثمانية على احتلال تيران عام 1911، حينما حاولت بريطانيا عقد تحالف إنجليزي سعودي خلال العام نفسه، لتصفية النفوذ العثماني في الخليج،... فقام السلطان العثماني بإرسال قوة عسكرية مزودة بقطع حربية واستولت على جزيرة تيران، لأنها بقعة سهلة لنقل المؤن والأسلحة إلى الجزيرة العربية من مصر».

-9-
“بحلول عام 1915، ومع نشوب الحرب العالمية الأولى، ودخول انجلترا الحرب ضد ألمانيا، انعقد مجلس النظار المصري برئاسة حسين رشدي باشا، وأصدر في 15 أغسطس 1915، أي بعد 24 ساعة من إعلان الحرب، قرارًا يتضمن عدة أمور منها: أن القوات البحرية والحربية التابعة لبريطانيا لها الحق في مباشرة حقوق الحرب في الموانئ والجزر المصرية وفي أرض القطر المصري كله، ولها الحق كذلك في مصادرة تجارة وسفن الأعداء وإحالتها إلى محكمة الغنائم البريطانية بالإسكندرية.

ونتيجة لدخول تركيا الحرب، أعلنت بريطانيا إنهاء السيادة التركية على مصر، وعزل الخديو عباس حلمي الثاني، وتعيين الأمير حسين كامل ومنحه لقب سلطان، وقررت إعلان الحماية على البلاد.

ولأهمية البحر الأحمر الإستراتيجية لدى بريطانيا في مواجهة تركيا، قامت بإحكام سيطرتها على البحر الأحمر شمالا وجنوبا، ولإتمام السيطرة قامت باحتلال معظم الجزر والموانئ في عام 1915 لقتل الاقتصاد التركي، ومنعها من أي تحركات عسكرية إيطالية ضد إنجلترا. واتخذت انجلترا مصر قاعدة عسكرية عريضة للتموين والإعداد وكمركز للتوسع والزحف وإنفاذ الحملات بالبر والبحر والجو، وكان للجيش المصري دور كبير في صد الأتراك عن اختراق قناة السويس والوصول إلى داخل مصر، فوزع الجيش المصري حامياته في الطور وأبوزنيمة والجزر والموانئ في البحرين الأحمر والمتوسط، وعلى كل منفذ بحري وبري يمكن أن تستغله تركيا للوصول إلى مصر، بالإضافة إلى دعمها للشريف حسين في تمرده ضد الدولة العثمانية وطرد أي قوات عثمانية بشبه الجزيرة العربية، وتحول البحر الأحمر إلى بحيرة إنجليزية، فكانت تيران وصنافير وفرعون وفرسان وبريم وغيرها من جزر البحر الأحمر تحت سيطرة القوات البريطانية حتى انتهاء الحرب”.

-10-
ينتقل الدسوقي بعد ذلك إلى مناقشة وضع «تيران في ضوء العلاقات المصرية السعودية»، منذ قيام الملك عبدالعزيز بتأسيس دولته وتعيين حدودها شبه النهائية، و”لا يرد ضمن تعيين الحدود الغربية للمملكة الجديدة، ما يتعلق بأوضاع جزيرتي صنافير وتيران ولو بالتلميح”.

ويستعرض الدسوقي الخلافات التي حدثت بعد ذلك بين الملك عبدالعزيز والملك فؤاد الأول لافتًا إلى أن الأخير كان ينازع الأول الرغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين، وكان ذلك يتطلب أن يسيطر على الأماكن المقدسة في الحجاز.

وتتوالى النزاعات وصولًا إلى دعم الملك فؤاد -عام 1928- تمردًا على حكم الملك عبدالعزيز في شمال الحجاز، يفشل التمرد فتفتح مصر أبوابها لقائده ليهرب إليها، ويسود اعتقاد بأنه دخل مصر من منطقة المضايق، فتسرع مصلحة الحدود المصرية بمخاطبة وزارة الخارجية للاستعلام عن تبعية جزيرة تيران لإيفاد بعثة لرفع العلم المصري عليها، فترد الوزارة بأن” سجلاتها لا تحتوي على أية بيانات عنها”.

وتتوالى الأحداث المشوقة -التي أدعوكم لقراءتها من مصدرها على مدونة الباحث- وصولًا إلى تحويل إسم الدولة إلى المملكة العربية السعودية سنة 1932، واتخاذ ما يلزم لتعيين حدودها وطريقة توريث العرش وتنظيم مؤسسات الدولة، «ولا توجد أي أدلة عن ضم جزيرتي صنافير وتيران إلى المملكة أو حتى التأكيد على ملكيتها لها في أي مرسوم سعودي يخص تنظيم المملكة الجديدة».

-11-
يستمر الدسوقي في استعراض التاريخ من دون أن يغفل واقعة يمكنها أن تضئي المشهد، من دون أن يأبه إن كانت تثبت الأمر أم تنفيه، إنه استعراض باحث رصين يعرف أن الأمانة العلمية تقتضي عرض كل الحقائق لاستقراء ما تفيد به، من دون قناعة مسبقة تصبح معها العملية مجرد استنطاق وتأويل.

يستعرض الدسوقي أوضاع الجزيرتين بعد اعتراف مصر في عهد فاروق بالمملكة العربية السعودية وفتح العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وكذلك أوضاع الجزيرتين خلال الحرب العالمية الثانية، إذ أصبحت إشكالية تبعيتهما موضعًا للجدل والنقاش داخل الحكومة البريطانية، “وكانتا موضع مراسلات مستمرة بين الخارجية البريطانية والأدميرالية بين عامي 1938 و1947، ظهر في هذه المراسلات أن وضعهما لم يكن قد تحدد بعد، وأن المملكة العربية السعودية يمكن لها المطالبة بالسيادة على الجزيرتين. وكان رأي الخارجية البريطانية في ذلك الحين أنه من الأفضل عدم إثارة مسألة ملكية الجزيرتين، لأنه مما يناسب مصلحة إنجلترا أن تبقيا خاليتين. وخاصة أن بريطانيا كانت تقوم بإجراء مناورات تدريبية عليهما في مدخل خليج العقبة وفى أماكن أخرى في البحر الأحمر منذ بداية الحرب العالمية الثانية التي بدأت عام 1939، تحسبًا لأى تحركات ألمانية محتملة، وقد أمرت وزارة الدفاع الوطني بشأنها مصلحة الحدود في 30 مايو 1943 باتخاذ ما يلزم لتسهيل مهمة القوات البريطانية، وهو ما أثبتته وثيقة أرسلها مكتب المخابرات بمصلحة الحدود المصرية إلى الوزارة في 3 يونيو 1943، وكانت بخصوص مناورة ستقوم بها القوات البريطانية بذخيرة تدريب في جنوب سيناء على مدخل خليج العقبة، وحددت الوثيقة أن المناورة ستكون في دائرة نصف قطرها ثمانية أميال مركزها جبل في شمال محمية النبق الحالية بالقرب من شاطئ مدخل الخليج، وهكذا تمتد العمليات إلى جزيرتي صنافير وتيران، لأنهما تقعان في نصف القطر البحري من المناورة.

وهكذا، أبلغت مصلحة الحدود الوزارة أنها أمرت محافظ سيناء بتسهيل مهمة القوات البريطانية وعدم إعاقة حركتها، وهي وثيقة طبيعية لا تثبت ملكية الجزر لمصر أو للسعودية لأن الوزارة كان يجب عليها اتخاذ مثل هذا الإجراء لأن نصف قطر دائرة المناورة يقع داخل سيناء بعمق ثمانية أميال، وأن هذا الإجراء يعد تنفيذا لتعهدات مصر في معاهدة 1936، وبموجبها تقوم مصر بتقديم أي تسهيلات للقوات البريطانية على أرضها وقت الحاجة”.
-12-
يصل الباحث إلى واقعة «احتلال مصر لجزيرتي تيران وصنافير عام 1950»، ويستعرضها منذ نشأتها وحتى نهايتها، ويتوقف عند المذكرة التي تضمنت رد وزير الخارجية المصري على استيضاح سفير الولايات المتحدة في تل أبيب عن البواعث التي حملت الحكومة المصرية على احتلال الجزيرتين والتي ورد فيها إقرار مصر بأنها قامت بالاتفاق التام مع السعودية باحتلال الجزيرتين، ليعلق بقوله: «من الملاحظ في تلك المذكرة أنها أقرت بذكاء وحرص بأي حق محتمل للممكلة العربية السعودية في الجزيرتين، وأن احتلالهما باتفاق العاهلين تم لتحقيق مبدأ»لنا«وليس لإسرائيل، وحدة العمل ووحدة المصير».

ثم ينتقل الدسوقي إلى «أزمة الملاحة في مضيق تيران ومحاولات التدويل» في أعقاب ثورة 23 يوليه 1952 في مصر، إذ صعّدت «إسرائيل» من موقفها المعادي لمصر في الأمم المتحدة سنة 1954، واعترضت على وضع مصر في جزيرتي تيران وصنافير، فأعلن المندوب المصري أمام مجلس الأمن في جلسة 15 فبراير من العام نفسه، أن مصر تمتلك الجزر، إذ قرر أن مصر تفرض سيادتها على الجزيرتين منذ عام 1906، حيث استخدمتهما في الحرب العالمية الثانية كجزء من نظام مصر الدفاعي، وأن التحصينات في هاتين الجزيرتين قد استخدمت لحماية سفن الحلفاء من هجمات الغواصات المعادية، وأن الاتفاق الذي تم مع المملكة العربية السعودية قد أكد أنهما جزء من أقاليم مصر.

ويعلق الدسوقي على ذلك بقوله: «من العجيب أن يصدر مثل هذا التصريح من مندوب مصر، الذي كان يحاول مغازلة قوات الحلفاء بعد انتصارها، لأن كل معلومة وردت في بيانه عليها ردود تاريخية ووثائقية تفندها. كما أن الاتفاق الذي تم بين العاهلين المصري والسعودي لم يصغ في اتفاقية مكتوبة حتى يستند إليه مندوب مصر في ادعائه، مخالفًا للأعراف الدبلوماسية المعتادة، وعلى الرغم من ذلك فشلت “إسرائيل” في استصدار أي قرار يمنع مصر من الرقابة على مضيق تيران بسبب وقوف الصين والاتحاد السوفيتي في صالح مصر أمام قرارات مجلس الأمن. وبذلك ظلت الإجراءات المصرية المطبقة على الملاحة الإسرائيلية في مضيق تيران حتى حدوث العدوان الثلاثي عليها في 26 أكتوبر عام 1956، والذي كان من أهم نتائجه دخول قوات طوارئ دولية للسيطرة على شريط ساحل خليج العقبة حتى مضيق تيران لضمان حرية الملاحة».

-13-
ومع محاولات إسرائيلية لتدويل خليج العقبة بالكامل بما فيه جزر تيران وصنافير وفرعون، وتأييد بعض الدول لهذا المقترح في الأمم المتحدة عام 1957، أعلن مندوب السعودية في الأمم المتحدة «تمسك دولته بملكية الجزيرتين»، وكان ذلك في المذكرة المرسلة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة في 12 إبريل، والمذكرة الثانية المرسلة في 17 إبريل، وقد جاء فيها أن المضائق التي تفصل هاتين الجزيرتين تحت الرقابة والسيادة السعودية، وكذلك المياه التي حولها تعتبر من المياه الإقليمية السعودية. ومن الملاحظ أن مصر لم تعترض على ما ادعاه مندوب المملكة، بل سكتت حيال هذا الأمر تمامًا، والمرجح أنهما كانا على اتفاق حول الأمر.

وإزاء تمسك بعض الدول بمقترح تدويل خليج العقبة بالكامل، قامت كل من مصر والمملكة العربية السعودية، بمد مياههما الإقليمية لمسافة إثني عشر ميلًا لكل منهما، وبذلك لم يعد في الخليج أي جيب للبحر العالي «المياه الدولية» يمكن اتخاذه كحجة لتنفيذ رغبات تدويل الخليج.
استوقفني هنا مدى قدرة أي دولة على تمديد مياهها الإقليمية، ولغياب المرجع لم أتمكن من التوثق من المعلومة.

-14-
يستمر الدسوقي في استعراض موقف الجزيرتين خلال حرب 1967، وبعد حرب 1973، وخلال اتفاقيات معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، التي تم التركيز فيها على “حرية الملاحة في الممرات المائية، وضمان حرية الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران بشكل صريح”، لما لهما من أهمية قصوى لدى “إسرائيل”، “لكن الاتفاق لم يتطرق لحقوق السيادة على الجزيرتين”، وإنما “ألزم مصر بضمان المرور الآمن من مضيق تيران بحرا والطيران الآمن فوقه”، ولكن نصها على ضمان حرية الملاحة لم يرتبط بحق المرور البريء إلا في مواضع تحكم المياه الإقليمية، ويصل إلى قناعة بأن الموقف المصري باستمرار السيادة على الجزيرتين كان دائمًا له ما يبرره إستراتيجيًا.

وقبل أن يختتم الدسوقي دراسته، يؤكد أن وضع الجزيرتين منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين وحتى الوقت الراهن له موضع آخر من الحديث، وطبيعة معالجة مختلفة، وهو الأمر الذي لا يمكن التكهن به، وعلينا انتظار ما سوف يكتبه عن ذلك.

ويختتم الدسوقي عرضه الذي لم يُغفل مرحلة تاريخية تقريبًا، باستعراض أبرز أسماء المؤرخين والسياسيين الذين تناولوا موضوع الجزيرتين بين مؤيد ومعارض، معربًا عن تقديره لجهودهم جميعًا.
واختتم الدسوقي دراسته بالتأكيد على أنها محاولة «لإزاحة بعض الغيم عن تاريخ القضية، حتى يأخذ تفكيرنا شكلا أكثر علمية ودقة، دون تسرع في إصدار الأحكام» موجهًا التحية «لكل من يغار على تراب وطنه» راجيًا أن «تمتزج تلك الغيرة المستحبة بالمعرفة».