كيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ هل هناك مزيد من الانحدار؟ حتى يصبح مصيرنا مأوى تحت الأرض نعيش فيه مغيبين عن عصرنا؟ مثلما حدث في فيلم Underground للمخرج المهم أمير كوستاريكا.
كيف تحولنا من رواد للفيلم العربى إلى باعة جائلين في الحقل السينمائى؟
من أين جاء الليمبي؟ وأين اختفت فؤادة؟
السينما لا تخترع أبطالها من الخيال، بل هي تعكس الواقع وتستلهم أبطالها منه، في أزمنة العار يكون اختيار الأبطال من العجزة المشوهين خُلقا وخلقة، معايير السوق الرديئة تحكم الصناعة وينسحب المبدعون ليقبعوا صامتين في ظلام النسيان، كل ذلك نتيجة غياب الوعى الثقافى وعدم وجود رؤية واضحة لدى الدولة، حكومة وشعبا، عن ماهية حقيقتنا التي يجب أن تقدم على الشاشة، وما هى قيمنا التي علينا أن ندافع عنها، وما هو تعريف الشرف الرفيع الذي يراق على جوانبه الدم.
الحديث عن حرية الابداع لا يتعارض مع التخطيط لهويتنا، في المقالين السابقين أشرت كيف تمهد الإدارة الأمريكية الطريق لسياستها عن طريق تعاونها الوثيق مع هوليوود، وأمريكا ليست معجزة زمانها، معظم بلاد العالم المستقرة توجد علاقات وثيقة يبن أجهزة الدولة والإعلام ووسائل الترفيه.
قبل ثورة يوليو كانت السينما المصرية للتسلية في المقام الأول، تدور في فلك موضوعات مستهلكة: الغنى المستهتر، الفقير الشريف، السقوط في الرذيلة، ثم التوبة، قصص حب رومانسية بين سندريلا والأمير، الفتونة والشهامة في الحارة، المهم أن تكون النهاية سعيدة ومنصفة حتى يخرج المشاهدون مؤمنون بأن الحق غالب والعدل مقام، ونادرا ما كنا نجد أفلاما لها أهداف تثويرية تهدف لتغيير العادات أو تتمرد على الواقع.
حدث تغيير حقيقى وملموس في الموضوعات المطروحة على الشاشة بعد ثورة يوليو، فعبدالناصر كان مدركا لأهدافه، وانحيازاته كانت واضحة من اللحظة الأولى، فكان طبيعيا أن يتم تحقيق ذلك في الفن كما في الحياة، أغانى الثورة رسمت صورتها في أذهان المستمعين: ثورتنا المصرية أهدافها الحرية، وعدالة اجتماعية ونزاهة ووطنية، وفى أغنية صلاح جاهين «بستان الاشتراكية» نجد المساواة بين العالم والعامل: علـى رأس بستـــان الاشتـراكيــة، واقفيـــن بنهـــزر ع الميـــــه، أمـة أبطــال، عُلمـــا، وعمـــال، ومعـــانـــا جـــمــــــال، بنغنــى غنـــوة فـرايحيـــــة. وغيرها الكثير، ولقد لمح الرئيس السيسى في كلمته في الفرافرة إلى أن الإنجازات التي حدثت في عهده تقارب إنجازات عبدالناصر، لكن الفرق كما لمح أن هناك من كان يمجد مشروع السد العالى الذي تحول لحلم أمة ناهضة «قولنا هنبنى وأدى إحنا بنينا السد العالى».
السينما المصرية قبل الثورة كانت لها سمات تميزها: أغلب القائمين عليها كانوا من الأجانب، لم يكن للدولة أي دور فيما يتعلق بالإنتاج السينمائي والتوجه الأساسي للسينما كان إنتاج أفلام التسلية والترفيه لضمان الربح، وتجنب الأفلام السياسية أو الاجتماعية.
ثم بدأ عصر الثورة، وأثر ذلك على السينما بالتأكيد باعتبارها مرآة المجتمع، وهنا نلاحظ ثلاث ظواهر في عهد عبدالناصر:
1- ظاهرة الأفلام التي تنتقد أوضاع ما قبل الثورة
وهى أفلام تم إنتاجها بعد الثورة وانتقدت الأحوال الاجتماعية والسياسية والاجتماعية قبل الثورة، مثل «يسقط الاستعمار»، «المماليك»، «رد قلبي»، «القاهرة 30» و«الأرض»، و«ثمن الحرية». «في بيتنا رجل» و«غروب وشروق».
وأفلام تناقش الفوارق الطبقية، والذل الذي كان يلقاه العمال والفلاحون مثل :«غرام الأسياد»، «الأسطى حسن». «صراع في الوادي»، «الحرام»، «يوميات نائب في الأرياف»، «الزوجة الثانية».
2- ظاهرة الأفلام المؤيدة للثورة وتظهر آثار الثورة على الناس مثل : «أرض الأبطال»، «الله معنا» أحمد بدرخان، «ضحايا الإقطاع»، «بورسعيد» عز الدين ذو الفقار.
3- الأفلام التي تؤكد على معانى وقيم الثورة: «أنا حرة» (1959)، وهو يبحث في مفهوم الحرية وينتهى، إلا أنه لا توجد حرية للفرد في وطن مغتصب ومحتل، «الأيدى الناعمة» (1964)، وهو يعظم قيمة العمل، «مراتى مدير عام» (1966)، وهو يحث على المساواة بين الرجل والمرأة، «النظارة السوداء» (1963) تطور شخصية «مادى المستهترة» بعد أن عرفت قيمة العمل وأهمية العامل، «قنديل أم هاشم» (1968) يمزج بين أهمية العلم واحترام الإيمان.. وغيرها من الأعمال الراقية والممتعة في نفس الوقت.
أبدت دولة عبدالناصر اهتماما بصناعة السينما، وظهر ذلك في القرار الجمهوري رقم 945 لسنة 1957 بإنشاء مؤسسة دعم السينما الملحقة بوزارة الإرشاد القومى، ثم تبعت ذلك بإنشاء معهد السينما عام 1959 كأول معهد أكاديمي للدراسة السينمائية في الشرق الأوسط، ثم تم تأميم بنك مصر بكل الشركات التابعة له، والتي منها شركة مصر للتمثيل والسينما.
أبرز ما قدمته مؤسسة السينما سهولة القروض التي تقدم للمنتج، كان يكفي أن يتقدم المنتج بمبلغ لا يتعدى 5 آلاف جنيه، حتى تمنحه المؤسسة مبلغا يتراوح بين 30- 50 ألفا، مقابل حق توزيع الفيلم، أو أن تقوم بضمان المنتج لدى أحد البنوك لمنحه قرضا بنفس المبلغ، بشرط أن توافق المؤسسة على السيناريو، ومن ناحية دور العرض، ظهرت بعد ثورة يوليو طبقة جديدة من جمهور السينما في الريف والأحياء الشعبية داخل المدن (جمهور الترسو)، الذين ارتادوا سينمات الدرجة الثالثة، وكانت التذكرة سعرها زهيدا، كما تبنى عبدالناصر فكرة إنشاء شاشات عرض جديدة في المراكز الثقافية في كل محافظات مصر، وصلت عددها في قصور الثقافة إلى 400 شاشة لم يتبق منها شىء حاليا.
تأميم صناعة السينما كانت له آثار سلبية ليس هنا مجال للحديث عنها، فما قصدته هو أن دولة عبدالناصر جعلت للسينما المصرية مسارا وتوجها رئيسيا، إلى جانب تنويعات فرعية، فلم تلغ الأفلام الخفيفة التي هدفها التسلية والترفيه والربح.
كان عبدالناصر يحترم الفن ويثمن تأثيره على الشعب، ورغم اللغط الذي أثير حول فيلم كمال الشيخ «ميرامار»، (1969)، الذي كان يسخر من الاتحاد الاشتراكى، فعبدالناصر تصرف بسعة صدر وطلب من السادات مشاهدته وكتابة تقرير عنه، وعلى إثره تم الإفراج عن الفيلم وعُرض، وحدث نفس الشىء مع فيلم «شىء من الخوف»، الذي منع من العرض لأن الرقابة وجدت أن فيه إسقاطا سياسيا، وأن عتريس في الفيلم يمثل عبدالناصر في الحياة. وشاهد جمال الفيلم في عرض خاص مع مجموعة من رجاله، بعد المشاهدة قال جملته الشهيرة: لو كنت زى عتريس أستاهل الحرق.
أدرك عبدالناصر تأثير السينما وأهميتها في تغيير السلوك ومواكبة أهداف ثورة يوليو، فلم يقف ساكنا، بل دفع بقرارات مهمة في هذا الاتجاه.. لكن ما حدث بعد رحيل عبدالناصر يحتاج لوقفة تأمل.. وللحديث بقية.
EKTEBLY@HOTMAIL.COM