العظيمان.. إدريس وعبد الناصر

جمال الجمل الأحد 08-05-2016 23:38


(1)
هاجمني البعض، وشكرني البعض على مقال أمس عن قصة «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، وفي الحالين كان التركيز على علاقة إدريس بجمال عبدالناصر، فالمهاجون وصفوها بأنها علاقة كراهية، تجلت في «العسكري الأسود» وأعمال ومواقف أخرى، والشاكرون رأوها علاقة دعم وتأييد لاتمنع النقد والعتاب، ولكن في إطار من المحبة وعدم التبعية.
أعرف طبعا أن العقل المصري وصل لحالة من التطرف تجعل الله في نظر الفريق الأول «شديد العقاب» وفقط، وفي نظر الفريق الثاني «الرحمن الرحيم» وفقط، لذلك رأيت أن أتوقف بقليل من التفصيل لمناقشة هذه العلاقة المركبة والمربكة.

(2)
مشكلة وعظمة «العسكري الأسود» تتمثل في تنوع توظيفها السياسي أكثر من اهتمام الناس بمدلولها الإنساني العام، لذلك يقرؤها الجميع حسب توقيت النشر، وظروف البيئة السياسية والأمنية لزمن القراءة، وليس لزمن الكتابة، وهذا من سمات الأدب الإنساني الصادق على كل حال، ففي الستيينات قرأها البعض كاحتجاج شخصي من إدريس على تجربة اعتقاله القصيرة، وفي السبعينيات، عندما بدأت أوسع حملة تشويه لنظام عبدالناصر باعتباره عصر «مراكز القوى»، وانتشار القهر والقمع والتعذيب، ودعم الإخوان ضد اليسار، أعاد خصوم عبدالناصر قراءة القصة ضمن حملة التشويه، وتم استدعاء تصورات خيالية لهذه الشخصية وتقديمها كنموذج لسلطة العسكر، ليس في زمن عبدالناصر وفقط، بل وحتى الآن، لكن هل يتعلق ذلك بعلاقة يوسف إدريس بعبدالناصر فعلا، وبموقفه المؤيد بشدة لثورة يوليو؟

(3)
لا أحب الإجابات القطعية، خاصة في قراءة الأدب، لذلك أضع المعلومات أمامكم، ليستنبط كل منكم إجابته الفضفاضة أو القاطعة حسب رؤيته، وفي البداية أوضح أن الزمن الفني للأحداث في «العسكري الأسود يقع في الفترة بين عامي 1947 و1948، أثناء إعلان الأحكام العرفية، وبعد تسرب شهادات عن تجاوزات البوليس السياسي في التعذيب اثناء حكومة إبراهبم عبدالهادي باشا، كما أوضح أن إدريس كتب قصته نهاية الخمسينات في زمن انتماءه العظيم للثورة، بعد سنوات لصرخته الوطنية الأولى في نادي القصة، لدعوة الأدباء إلى دخول معركة المقاومة بالأدب دفاعا عن بورسعيد ومصر كلها أثناء العدوان الثلاثي في 1956، وأخيراً يجب ألا ننسى أن إدريس أشار إلى تشوه الضحية والجلاد معاً، في إشارة إلى اهتمامه بالنظرة الإنسانية للتعذيب، بعيدا عن الدخول في أي خلاف سياسي، حتى أننا لانكاد نعرف من القصة أي ملامح أو مواقف للقضايا السياسية المختلف عليها، فالتعذيب جريمة بصرف النظر عن الموقف السياسي، ومن المخطئ ومن المصيب.

(4)
بدأ إدريس علاقته بالسياسة من خلال تيار اليسار في كلية الطب جامعة القاهرة، وفي جريدة «المصري»، وعرف طريقه إلى المعتقل بسبب اهتمامه بمشاكل الديموقراطية والعدالة الاجماعية التي ظهرت بوضوح في مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالي»، وربما تخمرت في ذهنه (كأديب) أثناء الاعتقال فكرة الكتابة عن القمع والسجون كما ظهرت في «العسكري الأسود»، و«مسحوق الهمس» وغيرها، لكنه (كمواطن) قرر فور خروجه من المعتقل الابتعاد عن تنظيمات اليسار، والاهتمام بمشروعه الأدبي، وفي المقابل هاجمه الرفاق واتهموه بأنه اصبح «عميلا للنظام»، خاصة بعد نشر أعماله في مجلة «التحرير»، ثم «روز اليوسف».
وزاد الهجوم بعد عمله في صحيفة «الجمهورية» وتعرفه على رئيس تحريرها أنور السادات، الذي ساعده على العمل في وزارة الثقافة ثم في المؤتمر الإسلامي الذي ترأسه السادات.

(5)
عندما نشر إدريس «العسكري الأسود» في مجلة «الكاتب» اليسارية مطلع الستينات، كان ينطلق من وعيه بفكرة الديموقراطية، والإدانة الإنسانية والفنية للقمع كما برزت في أعمال «كافكا»، وفي التحليل النفسي للشخصية الإنسانية الذي برع فيه ديستويفسكي، لكن الاستخدام السياسي للقصة تلون مع كل عصر، حسب التأويل، وهذه سمة الأدب العظيم، وأذكر أن الناقد اليساري الراحل فاروق عبدالقادر كتب مهاجما إدريس أكثر من مرة، ونشر مقالاته في كتاب بعنوان «البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس»، وبعد رحيل إدريس عاد فيما يشبه الاعتذار النقدي فكتب مقالاً في مديح القصة الإدريسية بعنوان «للقمر وجهان.. وهذه وجهه المضئ».

(6)
سحرني العنوان الدرامي الجميل (للقمر وجهان.. وهذه وجهه المضئ)، ورأيت فيه تعبيراً بديعاً عن نبل وصدق تناقضات إدريس (وكل البشر أيضا)، فنحن نجمع بين الجنة والنار، في كل لحظة، وليس من العدل أن نتعسف في تثبيت حركة الحياة لصالح لقطة فوتوغرافية منزوعة من السياق، ولذلك لن أتمسك بما كتبه إدريس في «الأهرام» مناجيا عبدالناصر بعد رحيله: «يا أبانا الذي في الأرض.. يا صدرنا الحنون»، ولا بوصفه المبالغ فيه للدنيا من بعده: «نحن لم نتعود أبداً أن نتنفس هواء لا يتنفسه هو، ولا أن ننام.. إلا ونحن نحس أنه هناك في كوبري القبة, ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورته وابتسامته..»

(7)
لم يكن إدريس مثقفاً تابعا لبد الناصر ولا أي حاكم آخر، وكثيرا ما انتقد النظام في الستينيات، حتى أن السادات (صديقه) فصله من «المؤتمر الإسلامي» تجنبا لأي حرج بعد أن كتب مقالا هجوميا ضد «الاتحاد القومي» في زمن يصفه البعض بالشمولية والديكتاتورية، لكن إدريس فوجئ بالتكريم وليس بالاضطهاد حيث صدر قراراً بتعيينه كاتباً في «الأهرام» وبدأ الكتابة فيها بنشر قصة «الخديعة» عام 1969 التي سخر فيها من هيمنة عبدالناصر، ورمز إليه بصورة رأس الجمل التي تطارد بطل القصة في كل مكان!

(8)
قبل ذلك بسنوات وتحديدا عام 1965 حصل يوسف إدريس على جائزة مجلة «حوار» اللبنانية كأهم أديب عربي، وكانت المجلة تمثل اتجاها معاديا لفكرة القومية العربية، وقوبل الخبر بهجوم عنيف على المجلة ووصفوا الجائزة بأنها مشبوهة لأن المجلة والمجموعة التي تصدرها ترتبط بعلاقات تمويل مريبة مع مؤسسات أمريكية، بل والمخابرات المركزية نفسها، وخرج إدريس بجرأة ليعلن رفضه للجائزة بالرغم من أنه كان قد ألمح لقبولها من خلال حواره مع مراسلها في القاهرة حينذاك الدكتور غالي شكري، وتم الاحتفاء برفض إدريس، وصدر قرار من عبدالناصر بصرف قيمة الجائزة لإدريس. وهكذا كانت العلاقة نقدية، ندية، محترمة، وليست كما رأينا بعد ذلك في الحظيرة، من مظاهر تدني العلاقة بين المثقف التابع بالسلطة الجاهلة.


جمال الجمل
tamahi@hotmail.com