التشنج.. لا يحل المشاكل!

عباس الطرابيلي الأحد 08-05-2016 22:19

دائماً يقول العقلاء إن الصوت العالى ليس تعبيراً عن العقل، بل هو أسلوب الضعفاء. والباحث عن الحل يكون دائماً هو الأهدأ أعصاباً.. لأنه يكون الأقدر على رؤية كل أبعاد المشكلة.. وهذا هو موقفنا فى قضية «نيران قش الأرز» المعروفة حالياً بمعركة نقابة الصحفيين مع وزارة الداخلية، أقول ذلك وأنا متجرد تماماً من أى عاطفة.. أو حتى انحياز لطرف ضد الطرف الآخر.. فما يهمنى هنا هو مستقبل مهنة الصحافة.. وهى فعلاً معرضة الآن لهزيمة قاسية وقريبة تهدد مستقبل الصحافة الورقية.. إلا إذا نجحنا فى تطوير المهنة بما يتوافق مع مستقبل آلاف الصحفيين، الذين جذبتهم نجومية هذه المهنة.

أى أن العصبية والتشنج لا يصلح فى معالجة أى قضية.. فما بالنا والقضية تتعلق بالعلاقة بين طرفى سلطة لا يمكن تجاهل دور أى منهما.. أقصد سلطة الأمن.. وسلطة الحرية. و«عين العقل» هنا أن نبحث عن حل يطبق فيه القول المأثور الذى جاءت به الأديان السماوية «لا ضرر.. ولا ضرار»، ولكننا نرى فى أغلبية معاركنا الآن، غياب العقل.. الذى يحاول أن يحل.. لا أن يسرع بإلقاء الزيت على النار.

والعقل الصواب هو ألا نغلق «كل الأبواب» أو كما يقول العسكريون «لا تدفع عدوك إلى الجدار».. أى تغلق أمامه فرصة الحياة، لأنك لو أجبرته على أن يحاربك وظهره - تماماً - فى الحائط، فسوف يكون شرساً فى قتاله لك.. لأنه فى هذه الحالة «إما قاتلاً.. أو مقتولاً». هكذا دائماً قتال اليائس من النجاة، فهو هنا يجد نفسه يستخدم كل أسلحته.. لينجو. وكذلك فإن القائد الذكى هو الذى يترك الفرصة لمن يحاربه لكى يهرب فى الوقت المناسب.. وإلا عليك أن تتحمل نتائج إغلاقك أنت لباب هروبه أو انسحابه.. وربما يكون فى ترك الباب أمام الطرف الآخر مفتوحاً، أو حتى موارباً، ربما يكون ذلك فى صالحك أنت.. وليس لصالحه، لأنك هنا تخشى إن كسرته ودمرت كرامته أو أوصلت المعركة إلى حد الإهانة.. تكون قد أضعت فرصتك لتحقيق النصر النهائى.. والعسكريون يقولون إن السلاح هو «إحدى» وسائل تحقيق النصر.

وفى معركة نقابة الصحفيين مع الداخلية، صعّدت النقابة من أسلوبها.. ونسيت هنا أنه من السهل أن تبدأ الحرب - أو أى معركة - ولكن لا أحد يعرف كيف يمكنه إنهاء هذه المعركة لصالحه.. فما أسهل أن تشعل حرباً.. وما أصعب أن تنهيها!.. والنقابة هنا أطلقت كل ما تملك من سهام تملكها، حتى وهى فى بداية المعركة، وبالذات فى مطالبتها رئيس الجمهورية بالاعتذار.. فضلاً عن تدخله لإقالة الوزير.. ونسى كل الذين أداروا هذه المعركة أنه طبقاً للدستور هناك قواعد وأساليب لإقالة الوزير.. أو إسقاط الحكومة نفسها.. ويبدو أن من بيننا من لم يعرف هذا التغيير فى السلطة التنفيذية العليا أو حتى فى سلطات رئيس الجمهورية نفسه.

ولا أحد يرضى بأى إهانة للصحفيين ولا للمهنة الشريفة.. ولا أحد يقبل أيضاً أى سلطة أخرى - ولو كانت سلطة أى من وزراء السيادة - أن تمس هيبة السلطة الرابعة.. ولكننا فى الوقت نفسه يجب ألا نعمل على تحطيم كرامة وهيبة الطرف الآخر.. ليس من باب المكسب والخسارة.. ولكن من منطق أن الخاسر الأكبر هنا.. هو الوطن نفسه.

ففى مثل هذه القضايا لا منتصر.. ولا مهزوم.. ولا رابح أو خاسر.. لأن الخاسر هنا هو إحدى أهم سلطات الوطن.. سلطة الأمن.. وحرية الصحافة.

ودعونا الآن من تكرار الكلام عمن أخطأ.. ومن أصاب، فقد سبق السيف العَذَل.. ووقع المحظور.. ولكن القضية هى الآن فى توقيتها.. وهل مصر تتحمل - وسط كل الضربات التى تتلقاها - معركة مثل هذه المعركة فى شراستها.. أم أننا اندفعنا دون روية.. وأعطينا الفرصة لطرف خفى - هو الطرف الثالث الآن فى كل معاركنا - لكى يركب الموجة ويقود ذوى الأعصاب الملتهبة وتلك الباحثة عن معركة؟!

أنا نفسى أرى ذلك، وأن هذا الطرف الثالث لا يترك وسيلة إلا واستخدمها.. وهو بارع فى ذلك.. من أسعار الدولار.. إلى الشاب الإيطالى ريجينى، إلى غضب الناس من ارتفاع الأسعار.. إلى تزايد حدة البطالة.. وكلها أسباب تدغدغ حواس البسطاء.. ولكنها تنطلق بينهم بسرعة رهيبة.. لأن هذا الطرف الثالث يملك ما لا تملكه السلطة كلها من قدرة هائلة على سرعة الحركة.. وعلى استغلال أى وسيلة.. المهم أن يحقق غرضه، وهو إما إسقاط الدولة نفسها.. وإما تقليل من هيبتها ومن شعبية الرئيس.. ولكننا لا نفهم خبث هذا الطرف.

** والخلاصة: دعوا الأبواب مفتوحة، ولا تغلقوا العقول.. ولا تضيعوا أى فرصة لحل القضية.. حتى ولو بأن يتنازل كل طرف عن جانب مما يتشدد به.. وأن يلتقى الطرفان عند نقطة سواء.. وقديماً قيل لنا: «خير الأمور الوسط».. أو تعالوا نطبق مقولة «لا ضرر ولا ضرار» على الأقل.. وتعالوا نعطِ الدولة الفرصة الكافية للانطلاق.. وأن نرى نصف الكوب المملوء.. تماماً دون أن ننسى نصف الكوب الفارغ.

** نقول ذلك حتى لا يخسر الوطن نفسه سلاحين من أهم أسلحته هما: الأمن.. وحرية الصحافة.. وكرامة نقابة الصحفيين.

ودعوا الزهور تتفتح.. فهذا هو الأفضل لنا جميعاً.