في خطبته الشهيرة التي ألقاها في 28 أغسطس عام 1963 وسط جمع بلغ عدده 25 ألف متضامن مع الحقوق المدنية للسود، دعا مارتن لوثر كينج إلى إنهاء سياسة التفرقة العنصرية في أمريكا وخاصة الولايات الجنوبية، ولقد جعل لخطبته الشهيرة عنوانا أكثر شهرة «لدى حلم» الذي أصبح شعارا تم تداوله في العالم كله وحتى الآن.
بعد 55 عاما، من هذه الخطبة التاريخية تم انتخاب أول رئيس أمريكى اسود، واقع أكبر من حلم مارتن لوثر كينج .
نصف قرن من الزمان ليس شيئا في عمر الشعوب والأمم.
التغيير الذي حدث في الصورة الذهنية للزنجى في عقل ووجدان الشعب الأمريكى وثقافة الرجل الأبيض يعد بمثابة المعجزة، حتى لو بقيت بعض آثار التفرقة العنصرية موجودة وتظهر من آن لآخر. كان لابد من التخطيط لهذه اللحظة بشتى الوسائل والطرق، ولقد حدث ذلك عبر الكثير من القنوات، اولها بالطبع إيمان السود بعدالة قضيتهم والكفاح من أجلها دون وهن، فلقد تشبثوا بالأمل، وآمنوا بحلمهم، ثم كان التفكير البرجماتى للزعماء الأمريكيين، الذين أدركوا أن التفرقة العنصرية مآلها إلى زوال، فهى كالبثور العفنة التي تشوه وجه أمريكا، التي تصدر للعالم قيم الحرية والمساواة.
استطاع الرئيس جونسون أن يقر قانون الحقوق المدنية عام 1964، الذي يمنع التفرقة والتمييز بين اللونين في أنحاء البلاد، ولم تقف مؤسسات الدولة مجرد شاهد على الأحداث، المخابرات الأمريكية لها أدوار كثيرة وأياد ممتدة هنا وهناك، ولقد وجدت في السينما عونا لها على تحقيق أهداف أمريكا الاستراتيجية التي يلتزم بها الرؤساء الواحد تلو الآخر، القوة الناعمة كانت حاضرة في الحرب ضد العنصرية.
الصدفة كلمة لا معنى لها في أمريكا، في عام 1964، وفى خضم كفاح الأمريكيين السود ضد سياسات التميز العنصرى، نشر الكاتب الصحفى إرفينج والاس رواية الرجل the man.
وهى من نوع الخيال العلمى، وتدور حول رئيس أمريكى أسود «دوجلاس ديلمان»، ووالاس هذا أمريكى الجنسية يهودى الديانة، ولقد لاقت الرواية رواجا كبيرا حينذاك، ولم تتحول إلى فيلم سينمائى إلا عام 1972، العمل لاقى صعوبات في العرض المنزلى على التليفزيون وقرر المنتجون عرضه في صالات العرض السينمائى، فلم يكن الرأى العام مهيئا بعد لمثل هذه الفكرة المجنونة وقتذاك.
(أفيش فيلم الرجل)
سبق هذا الفيلم فيلمان ظهر فيهما رئيس أمريكى أسود في عام 1933و1941 لكن لم يكن على سبيل الجد بل كانت أفلاما هزلية ساخرة.
بعد عامين من صدور رواية «الرجل» صدرت رواية أخرى لفيليب ديك «فرقعة في الفضاء» وتقدم نفس الأطروحة: رئيس أسود يحكم أمريكا.
السلوك والأفكار أصعب الأشياء على التغيير، فهما يحتاجان لوقت وتخطيط وإلحاح. ما حدث في 2008 مع فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية سبقه تخطيط محكم على مدى طويل.
سلوك الناخبين لا يتشكل بين ليلة وضحاها لكن يحتاج لسنوات وقوة ناعمة تتغلغل وتنتشر دون أن تترك وراءها أثرا ولكن تأثيرا على العقل والسلوك .
كان للسينما الأمريكية دور هام جدا في تأهيل الشعب الأمريكى لحكم رئيس أسود، في السنوات التي سبقت انتخاب اوباما أنتجت هوليوود مجموعة من الأفلام ضخمة الإنتاج معظمها تصنف خيالا علميا، أظهرت الرئيس الأسود وهو يواجه أزمة كبيرة: غزو كائنات فضائية، كوارث طبيعية، إرهاب نووى وفى كل مرة يستطيع ان ينجو من المحنة ويتغلب على الصعاب.
الرسالة: الرئيس الأمريكى الأسود قادر على إنقاذكم، وربما هو أكثر حكمة وذكاء من الرؤساء البيض.
أهم أفلام هوليوود في العشر سنوات التي سبقت انتخاب أوباما وظهر فيها رئيس الولايات المتحدة أسود:
1997 فيلم العنصر الخامس The Fifth Element
1998 تأثير عميق Deep Impact
2003 رئيس الدولة Head of State
2009 فيلم 2012
التغيير لايأتى بقوة السلاح، ولكن بالتخطيط الرشيد طويل الأمد ووضع استراتيجية واضحة المعالم للسلوك الذي نريد أن يكون الشعب عليه.
زرت متحفا للأسرة في ألمانيا عام 2006، وهو يقدم للزائرعبر نماذج مصغرة، أنواعا مختلفة من الأسر، فهناك الأسرة من عرق واحد، وهناك أسرة الأب مختلف عرقيا عن الأم، وهناك أسرة ليس فيها إلا عائل واحد أم أو أب، وهناك أسر الأب والأم من نفس الجنس «المثلية الجنسية».. من قام بتنفيذ هذه النماذج أراد أن يقدم للطفل بصفة خاصة (كما قال لى مرشدى الألمانى) نماذج متعددة للأسرة، وليس نوعا واحدا حتى يرسخ في عقله الاختلاف، وهو ما نجحت فيه سلسلة أفلام star wars حرب النجوم، التي قدمت مخلوقات مختلفة الأشكال ليست كلها آدمية، تتكلم بلغات مختلفة ولكن يمكنها التواصل فيما بينها.
الأعمال الفنية (أفلام ومسلسلات تليفزيونية) من أكثر أدوات القوى الناعمة تأثيرا على العامة، لكن للأسف في بلدنا ليس هناك من يخطط ولو لجزء بسيط من هذه القوة لتغيير سلوك المجتمع المصرى ليتقبل الاختلاف وفكرة احترام الآخر .
لو أردنا ترسيخ مفهوم الدولة العلمانية، فعلينا أن نقدمها للعامة على حقيقتها وبصور بسيطة دولة لا تحرض على الكفر وترك الدين، ولكنها تفصل الدين عن الحكم، تساوى بين الجميع أمام القانون، وتترك للجميع حرية العقيدة وممارسه طقوسه الدينية كيفما شاء وقتما يشاء، طالما لا يعتدى على حرية الآخرين وحقوقهم .
لو بذرنا تلك الأفكار في رؤوس صغارنا، بعد سنوات وحين يقف أمام صندوق الاقتراع ليدلى بصوته سيجد من الطبيعى أن يعطى صوته لرئيس مسيحى لو كان كفئا وأفضل من مافسيه المسلمين، تماما مثلما فعل سكان لندن الذين انتخبوا صادق خان كأول عمدة للندن مسلم الديانة من أصول باكستانية ....
القانون يجمع بيننا وفى نفس الوقت يحمينا، وكما قال مارتن لوثر كينج: «قد يكون صحيحًا أن القانون لا يمكن أن يجعل شخصا يحبني، لكن بإمكانه منعه من إعدامي زورا، وهذا في اعتقادي في غاية الأهمية».
عالم السينما والسياسة يتشابكان في مصر وأمريكا.. هوليوود أثرت على العالم وغيرت ثقافته وغيبت وعيه بالصور فائقة الجودة والإنتاج الضخم، ونجحت سينما الستينات في صنع مسار مختلف صنع وعيا ليبراليا واحتراما لقيم العمل والأمانة ومحاربة الفساد ثم جاءت الانتكاسة مع الانفتاح وواصلنا الهبوط حتى وصلنا للسبكى .... غدا نواصل بإذن الله.
ektebly@hotmail.com