دولة «مجدى فونيه الإسلامية».. ولاية القاهرة

أحمد الشهاوي السبت 07-05-2016 21:37

ليست المرَّة الأولى، وأرجو أن تكون الأخيرة، التى أقتنى فيها خاتمًا فاتنًا فى تصميمه وجماليات تكوينه، ليس مكرَّرًا، ثقيل الوزن، غالى القيمة، وقد سقط يومًا منِّى، فإذا قُبَّته محشوة أو ملأى بقطعةٍ من الحجر الجيرى، وكنت اشتريته باعتباره خاتمًا خالصًا من الفضة عيار 925، الأعلى نقاء وليونة، وطواعية فى السبك، وقدرة على التشكيل فى معدن الفضة، وذلك النوع مقاوم للتلف والخدش.

والخاتم عندى قصيدةٌ متعدِّدةُ البنى، تتطلَّب خيالا جامحًا، ومهارةً فى الصَّوْغ، وذكاء فى السَّبكِ، ومُغامرة فى اختيار الحجر الذى سيعلو المعدن، كأنه قبةٌ لروح القلب.

الصائغ شاعرٌ، وليس كلُّ صائغ بالضرورة شاعرًا، لأن من يخلق غير من يمارس مهنةً، والإصبع الذى لايتختَّم ناقص من اليد، يعنى أنه غير موجود، يؤدِّى وظيفته دون جمالية وأبهة، هو فقط محض إصبع كغيره من الأصابع فى يد عابرٍ أو عابرة.

ولذا دومًا أردِّد طوبى لمن يتختَّمن، ومن يتختَّمون.

ومرة اشتريت عصا نادرة رأسها من الفضة، وما إن ضُربت فى الأرض مرَّةً، حتى تفكَّكت الرأس، فإذا هى مملوءة بالحجارة الصغيرة.

ذلك الحشو الذى يُباع لنا، باعتباره معدِنًا نفيسًا سرعان ما نكشفه عند أول اختبارٍ حقيقى.

وفى الحياة- خُصوصًا فى أمور الدين والآداب والفنون والفكر- جماعة ليست قليلة العدد، ولا يُستهان بها من حيث تبوئها مراكز مهمة هى «حشوية» القلب والقالب، والمنتسبون إليها ليسوا من العامة فى هيئاتهم ومواقعهم، لكنهم من حيث الفهم والعقل من أهل العامة الذين هم حشوٌ فى الكلام، يقرأون ويكتبون ويفتُون دون تمييز، يخلطون بين الغث والثمين، لا يُميِّزون بين الصحيح والضعيف، إذ هم إلى الجهل أقرب منهم إلى العلم والعقل، لا يعملون ويضيرهم أن يعمل الآخرون، ومصدر التلقى والتلقين عند هؤلاء هو النقل، إذ يقدمون المنقول على المعقول، حيث العقل غائب لديهم، ولا يريدون له أن يشتغل؛ ليبتكر ويخلق ويبدع ويضيف.

ولقد تكاثر الرجال المُجوّفون المحشوون الذين يساند بعضهم بعضًا، رؤوسهم وقلوبهم مليئة بالقشِّ، هم إذن الرجال الجوف بتعبير الشاعر ت.س. إليوت (1888-1965).

وهؤلاء المحشوون بالحجارة أو بالقش محنَّطون مقدَّدون، وما أكثرهم من المشتغلين بالدين الذين يعتبرونه مهنةً تدرُّ ربحًا وفيرًا، ماالله فيها إلا واسطة المسبحة.

ولا يمكن- فى حالٍ كهذه- أن تستقيم حياة، أهلها مشغولون بتصنيف بعضهم البعض بين كافرٍ ومؤمنٍ، بين زنديقٍ ومسلمٍ، بين مسلم وقبطى، بين سنِّى وشيعى.

وحياة كهذه يتم فيها إقصاء من يفكِّر ويسأل ويحب أن يقول لا فى وجوه من قالوا نعم، وفى حضرتهم.

فنحن نعيش فى زمنٍ، نجد فيه الجاهل بدينه، يدعو أصحاب العلم والفكر والثقافة إلى الدخول فى الإسلام، كأنهم ليسوا مسلمين بالأساس، أو كأنهم كفرة فجَرَة وعليهم أن يتوبوا، ويعودوا إلى الله، ويرجعوا إلى الكتاب الذى تركوه.

وهؤلاء المتأسلمون الذين أسميتهم فى كتابٍ سابقٍ لى «نوَّاب الله»، هم من يشعلون الحرائق، دون أن يدروا ما طبيعة النار، وما الذى يمكن أن تأكله، وهى تعمل خُصُوصًا أن لا رماد لها، وإذا كانت ستخلِّف رمادًا فهو رماد بشرى، لا يستحق بأية حال أن يُحرق.

وهؤلاء الجُهال المقيمون فى السكون، يسلكون ويمشون بين الناس ولسان حالهم يقول (أنا ربكم الأعلى).

ومن له عقل، يستطيع بشكلٍ تلقائى – دون وسيطٍ – أن يحس ويحدس ويعتقد ويؤمن ويرفض ويُغربل وينخُل ويُقوِّم ؛ لأن الله خلق الإنسان ؛ ليرى ويتدبَّر ويعقِل، ولكنَّ بعضًا من الناس يريدون دائمًا أن يوظِّفوا أنفسهم وسطاء بين العبد وربِّه، كأنَّ الله ملموس ومحسوس، وليس مُقدَّسًا مُنزَّها عن كل نقصٍ، عليمًا مجيدًا، لا شريك له، بينما الذين يريدون مشاركته فى الوساطة ينطبق عليهم المأثور العربى فمٌ يسبح ويدٌ تذبح، أى أنهم يظهرون ورعًا وتقوى وهم يُخفُون الشرور والآثام، ويرتكبون الفواحش باسمه تعالى، وهم بذلك متناقضون فى أفعالهم وأقوالهم.

هؤلاء الذين يعيشون فى الماضى، ذلك الماضى البغيض المملوء أخطاءً وخرافات، غير جديرين بالحاضر، الذى يعيشونه، ولا بالمستقبل الذى يبتغيه وينشُدُه غيرهم؛ لأنهم أبناء كتب ميتة، هامشية، لا تمثل عمودا واحدا فى أعمدة الحضارة الإسلامية، وليست تعبر عن التراث الإسلامى العظيم الذى تركه الأسلاف المنيرون المجددون، الذين خلقوا طرقا جديدة للعالم فى مختلف المعارف، وشتى العلوم.

فالله منزه عن أن يكون مضغة تلوكها الألسن، كما أنه ليس أداة ضغط؛ كى يصل تُجَّار الدين إلى مبتغاهم، الذى وصلت ببعضهم الحال؛ لأن يعلن مدينة تاريخية شهيرة متجذرة فى التاريخ كالقاهرة «ولاية القاهرة» ؛ لتكون جزءا من الدولة الإسلامية المشتهاة أو المزعومة أو المحلوم بها.

■ ■ ■

وهؤلاء الذين «يحلمون» بـ«ولاية القاهرة» هم تلامذة مباشرون أو غير مباشرين (عبر شرائط الكاسيت والتسجيلات الأخرى) للتيار المُتسلِّف المُتشدِّد المنتشر فى مدن وقرى ونجوع مصر، وهو أكثر خطورة من جماعة الإخوان؛ لأنه الأكثر عددا؛ الأمر الذى جعل المجتمع يتسلَّف ويتوهب «من الوهابية» بسرعة مريبة، حيث تدعمه دول مجاورة لمصر، وقد ذكر أحد دواعش ولاية القاهرة فى نص اعترافاته أنه تحوَّل على يد محمد حسان ومحمد حسين يعقوب ومسعد أنور وسواهم، كما ذكر شيخًا له يتزعَّم كتائب حلوان اسمه مجدى فونيه (لاحظ الاسم) كان يومًا ما أمينًا لتنظيم حزب الحرية والعدالة «الذراع السياسية للإخوان» فى جنوب القاهرة، وخلال الأشهر الستة الأخيرة من حكم الإخوان صار المسؤول الأول عن جماعة الإخوان، وهو الذى يعمل نجارًا، وتربَّى لعائلة «تصلح بواجير الجاز الخربة»، وموقف كهذا يذكرنى بواحد من قريتى كفر المياسرة كان زميلا لأخى الأكبر محمد، لم يستطع أن يكمل تعليمه لظروف تخصُّ مستواه العلمى والثقافى وليس الحياتى، جاء إلى بيتنا لما علم بوصولى من القاهرة؛ ليهدينى إلى الطريق المستقيم، والعودة إلى الله، فما كان منِّى إلا أن ابتسمت، وقلت له بأدب: اذهب وتعلَّم واقرأ وتأدَّب مع الله، ساعتها فقط يمكن أن يكون هناك حوارٌ بيننا فى الدين، واعلم أن الهداية من الله وحده، وأنتَ لست مؤهلا لتهدى حتى ذاتك.

وهذا يذكِّرنى بأن الذى اغتال فرج فودة (الزرقا، 20 من أغسطس، 1945- القاهرة، 8 من يونيو، 1992).

كان بائعا للسمك لم يقرأ له كتابا، لأنه فى حقيقة الأمر لا يقرأ ولا يكتب، حسب اعترافه خلال محاكمته، وأن الذى حاول اغتيال نجيب محفوظ (11 من ديسمبر 1911- 30 من أغسطس 2006) سنة 1994 لم يقرأ له كتابا، وهو فنى إصلاح أجهزة إلكترونية حصل على شهادة متوسطة فى التعليم، وقد اعترف بأنه لا يحتاج قراءة نجيب محفوظ؛ ليقدم على اغتياله، وأنه لو قدر له أن يراه من جديد فسيقتله، والإخوانى الذى قدَّم استجوابا ضدى، وضد كتابى «الوصايا فى عشق النساء»- الكتاب الأول، فى البرلمان المصرى سنة 2003 لم يكمل تعليمه ويكره القراءة، ومتهم فى قضايا كثيرة.

هى إذن دولة الجهل التى تنمو وتتمدَّد، فى طول البلاد وعرضها، التى تريد أن تفرض نهجها على البلاد والعباد، وأن نرضى بها، ونرضخ لـ«أمرائها»، الذين سيوف عقولهم من خشب.

ahmad_shahawy@hotmail.com