«المجانين فى نعيم»، مثل مصرى شهير، عرفناه من قديم، منذ تفتحت عيوننا ووعينا على الحياة.. ويبدو أن الذين أطلقوا هذا المثل هم العقلاء، الذين كانوا ولا يزالون يئنون تحت وطأة مشكلات الحياة وأزماتها التى لا تنتهى.. هؤلاء وحدهم هم الذين يدركون كم هو أليم وموجع ومحزن هذا الواقع الذى يعيشونه.. هم وحدهم الذين يشعرون بالمآسى والكوارث التى تقع أمامهم وحولهم؛ على المستويين الإقليمى والدولى..
أما المجانين فهم فى عزلة عن العالم الذى يعيشه هؤلاء العقلاء، أو من يظنون أنفسهم عقلاء.. لهم عالمهم الوحيد أو الخاص بهم الذى لا يطلع عليه غيرهم.. واحد من هؤلاء المجانين كان يعيش فى حيِّنا.. يسير فى الطريق، فيتجمع الأطفال والصبيان حوله.. أطلقوا عليه اسم «المجذوب».. يتعلقون بملابسه، ويحاولون استثارته لكى يتحدث إليهم، لكن هيهات.. أحيانا يلتفت إليهم، ثم يطلق ضحكات متصلة يعقبها ببكاء ذى شجون، وهو ما كان يجعل الأطفال يستمرون فى مناوشته ومشاغبته.. كان شعر رأسه ولحيته طويلا، وشعر حاجبيه كثيفا ومتدليا.. لم يكن يعرف طريقا إلى الاستحمام، وكانت ملابسه رثة وممزقة ومهلهلة.. يمشى حافى القدمين.. أحيانا كثيرة يتمدد على أحد الأرصفه، واضعا ساقا على ساق، غير مهتم بمن يمر به، وغير ملتفت إلى الطعام الذى يضعه إلى جواره أصحاب القلوب الطيبة..
قال بعض الأهالى عنه إنه من الواصلين، وإنه أعقل الجميع وأكثرهم حكمة، لأجل ذلك هو هائم فى حب الله، وهو - من ثم - لا يدرى من أمر نفسه شيئا.. هو غير منشغل بما ينشغل به عامة الناس.. وبدلا من النوم على الأرصفة، أقام له بعض الأهالى «عشة» يأوى إليها، ويحتمى بها من برودة الليل.. ثم هم يضعون له فى «عشته» بعض الطعام.. روى الناس عنه حكايات وروايات عجيبة وغريبة..
قال أحدهم إنه رآه فى يوم كذا يطوف حول الكعبة، وإنه ناداه بأعلى صوته لكنه كان فيما يبدو مستغرقا فى الذكر.. وقال ثان إنه عندما ذهب إلى المقابر لتشييع جثمان أحد أقربائه، رآه مستلقيا على تل من القمامة وقد تغطى ببردة ثمينة وحوله القطط والكلاب تعيش فى وئام وهى تعبث ببقايا علب الصفيح.. وعند عودته اقترب منه ليتاكد أنه هو، ولما ألقى عليه السلام، نظر إليه من طرف إحدى عينيه، ثم غمغم قائلا: أسرع.. أسرع.. عُد إلى بيتك، فإن المطر سيغمر المكان(!) وقال ثالث إنه رآه فى مسجد سيدنا الحسين يرتدى «جبة» و«قفطانا»، وعمامة ضخمة، وقد جلس بين القوم فى وضع مهيب ليعطى درسًا فى الفقه (هكذا)... فى «عشته» المتواضعة، كان يزوره كبار القوم لالتماس البركة، وطلب النصح والإرشاد والتوجيه.. فهذا يستأذن فى الذهاب إلى العمرة، وذاك يريد أن يبنى بفلانة، وهذا يخطط لشراء أرض يبنى عليها بيتا، وذاك ينتوى البدء فى مشروع تجارى، وهكذا..
أما عدد النساء المطلقات اللاتى كن يترددن عليه، وكذلك العشاق والمحبون الذين لا يجدون سبيلا لمحبوبيهم، فحدث ولا حرج.. وكثيرا ما كان أهل المدينة يرون المحافظ يأتيه.. وقيل وقتها إن زوجة الرجل لا تنجب، وهو - أى المحافظ - يريد من «المجذوب» أن يدعو الله له، ليرزقه بالخلف الصالح..
فجأة وعلى غير موعد، استيقظ أهل الحى على نواح وبكاء وعويل.. لقد مات «المجذوب».. وانتشر الخبر فى سرعة البرق.. وجاء الناس من كل حدب وصوب.. تزاحم الجميع، كلٌّ يريد أن يلقى عليه نظرة الوداع.. فى تلك الليلة، أقام أهل الحى مأتما كبيرا، يليق بمقام «المجذوب».. ودُعى مشاهير القراء لتلاوة القرآن على روحه الطاهرة.. الناس يعزى بعضهم بعضا، كأنهم فقدوا أغلى شىء لديهم.. أقيم فى مكان «العشة» التى كان يبيت فيها «المجذوب»، ضريح كبير، أطلقوا عليه ضريح سيدى العارف بالله «المجذوب».. زين الضريح بأعلام خضراء زاهية، وأرفق به ماء «سبيل» يشرب منه الغادون والرائحون..
أصبح الناس يأتون إليه من كل مكان؛ من هذا الحى والأحياء المجاورة.. ومع الوقت، ذاع صيت «المجذوب» فى طول البلاد وعرضها.. وتحدث الركبان عن كراماته، وكيف أنه تمّت على يديه «معجزات» كثيرة، لدرجة أن الناس كانوا يقسمون به وبحياته، بل أرخوا أحداثهم بيوم وفاته، فهذا الحدث وقع قبل وفاة «المجذوب»، وذاك بعد وفاته، وهكذا.. بعد عام كامل، أقاموا باسمه مولدًا، أطلقوا عليه مولد سيدى «المجذوب»، صاروا يحتفلون فيه كل عام.. لقد كان «المجذوب» فى نعيم، وبعض من يظنون أنفسهم عقلاء فى نعيم أيضًا..