الليلة والبارحة!!

عبد المنعم سعيد السبت 07-05-2016 21:44

لست أبداً من المؤمنين بأن الليلة يمكن أن تشبه البارحة، فالنهر لا يمر بنفس النقطة مرتين، ولا يمكن أن يكون ما يحدث حاليا بين الجماعة الصحفية، ممثلة فى نقابة الصحفيين، من ناحية والسلطة التنفيذية من ناحية أخرى، مماثلاً لما جرى بين الطرفين فى عام 1995. عقدان من السنوات أو أكثر فصلا ما بين الحادثتين، ولم يكن فى ذلك العقد شبه مع العقد الحالى، فلم تكن هناك ثورات جرت، ولا تغيرت أجيال من الساسة فى الحكم وخارجه، ولا كان هناك بالطبع هذا القدر من الثورة التكنولوجية، كان الإنترنت لايزال فى بدايته، أما فيس بوك وتويتر والمدونات والمواقع الإلكترونية فكلها كانت واقعة ما بين الحلم والتجريب وعلم الغيب. كنا نتحدث عن العولمة، ولكننا لم نكن نعيشها، وكان التغيير فكرة تجرى فى آجال طويلة، والآن فإننا نراه أمام أعيننا، ولمَن اشتغل بالصحافة والإعلام فإن القدَر منحه مقعدا أماميا فى مشاهدة صناعة التاريخ.

المتشابهات تظل ماثلة، وربما كانت أشباح الماضى تفرض نفسها بقوة، ولحسن الحظ أننى كنت وسط العاصفة الأولى التى تولدت، فجأة، عند صدور القانون 93 لعام 1995 لتنظيم الصحافة. لم يكن اقتحام نقابة الصحفيين متخيَّلا فى ذلك الوقت، ولكن ضربة القانون كانت ساحقة ماحقة، خاصة أنها جاءت وقت غياب نقيب الصحفيين الأستاذ إبراهيم نافع فى رحلة عمل إلى أمريكا الشمالية. وكما هى العادة فى البلاد النامية، فإن المفاجآت تأتى كالقضاء النافذ والقدَر المحتوم، وهو ما تجسد فى مؤتمر حاشد لرئيس الجمهورية مع الإعلاميين، بعد أن وجدوا فى صحف الصباح أخبار القانون الجديد، الذى يُنهى كل ما يعرفونه عن حرية الصحافة. وكان لابد للموضوع أن يُفتح، فكان هناك مَن لام، وكان هناك مَن نافق، ومع كليهما تبرَّم الرئيس مبارك حتى قام مَن مدحه بقصيدة شعر. انفض الجمع مع الأسى، وذهبوا إلى نقابة الصحفيين لكى يبحثوا الأمر، وفى منزلى جاء صوت النقيب من مطار القاهرة سائلاً عما جرى، ومن بعده سأل عما نفعل، فأجبت بسؤاله، وهو القريب من دوائر الدولة العالية، عما ينوى هو أن يفعل؟ وكانت الإجابة قاطعة مانعة بأن القانون لن يمر إلا على جثته!.

هل كان الأمر ساعتها انقساماً فى دوائر السلطة؟ لم توجد إجابة وقتها ولا الآن. ما حدث- بناء على اقتراح منى- أن تجتمع لجنة من الحكماء فى مكتب النقيب ورئيس تحرير الأهرام ورئيس مجلس إدارتها لكى تضع استراتيجية للتعامل مع الأمر. وبالفعل جرى الاجتماع، فى حضور كل من الأساتذة: لطفى الخولى وسيد ياسين ومحمد السيد سعيد ووحيد عبدالمجيد، وكان ما جرى الاتفاق عليه أنه لابد من تحقيق هدفين، الأول: ضرورة إلغاء القانون 93 لعام 1995، والثانى: لابد من الحفاظ على الدولة وهيبة الرئاسة، وأنه لا ينبغى إطلاقا حدوث صدام بين الدولة والصحفيين. وبالتأكيد كانت المسألة على هذا النحو صعبة، فالرئيس مبارك كان غاضبا بشدة على الصحافة والإعلام، وكان الصحفيون غاضبين أيضا بشدة على صدور قانون غير عادل ولم يُستشاروا فيه. كان الرئيس يهدد بالدبابات التى تقتحم نقابة الصحفيين، وكان الصحفيون يهددون بالاعتصام والنزول للجماهير، فى صيغة مبكرة لما جرى بعد ذلك فى يناير 2011.

تطبيق الأهداف المنوه عنها بدأ مع دعوة القيادات الصحفية الفاعلة إلى اجتماع مع النقيب فى حجرة رئيس مجلس الإدارة بالدور الثانى عشر من الأهرام. ورغم ما كان من توجس وشك معتاد بين تيارات سياسية مختلفة، فإن الجميع كانوا على مستوى المسؤولية، وأخص بالذكر فى ذلك اليوم الأساتذة: عادل حسين، وحسين عبدالرازق، وصلاح عيسى، وكارم محمود. وربما كان هناك آخرون لم تعد تسعف الذاكرة بأسمائهم، ولكن الجميع تعاونوا مع آخرين أعدوا المذكرات القانونية والسياسية التى توضح فساد القانون وانعدام ملاءمته لحالة مصر الداخلية والخارجية. وقتها جرت اتصالات مطولة مع كل مَن له علاقة بالرئيس، مثل: الدكتور أسامة الباز، مستشار الرئيس، والسيد صفوت الشريف، وزير الإعلام، والدكتور فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب.

تفاصيل القصة امتلأت بلحظات ساخنة وأخرى هادئة، وربما توجد مناسبة فى وقت آخر لسرد ما جرى، ولكن المهم أنه بعد عام تم إلغاء القانون المشؤوم، وتولد قانون آخر للصحافة عام 1996 قَبِل به الجميع، فهل الليلة شبيهة بالبارحة، والإجابة هى بالنفى، فقد تغيرت مصر كما تغيرت الصحافة والإعلام، وذهبت نخبة سياسية وجاءت أخرى، وذهب جيل من الصحفيين وأتى آخر، وتطورت تكنولوجيا الاتصالات كما لم توجد من قبل، ودخلت مصر عهداً من الثورات التى اتخذها بعضنا مهنة، وبعضنا الآخر عدوا. الدرس الذى يجب أن يتعلمه مَن جاءوا بعدنا على جانبى المعادلة أنه مع تغير كل شىء فإن الأهداف لم تتغير، فحرية الصحافة لا يمكن التنازل عنها، وإذا كانت السلطة السياسية لديها مشكلة، فإن لديها من الأدوات الصحفية والإعلامية ما يسد وجه الشمس لكى تناقش وتحاور وترد وتدافع وتعبئ، كذلك فإن الحفاظ على مصر هو الهدف الأسمى، لأنها بالفعل فوق الجميع.