(1)
قبل أيام من ذكرى مولده، يشغلني الرائع الراحل يوسف إدريس، وتشغلني عبارته عن الجهد الإبداعي الذي كان يبذله في كتابة مقاله الصحفي بـ«الأهرام»، فقد عاب عليه بعض النقاد في السنوات الأخيرة عدم اهتمامه بالقصة القصيرة، فقال: «إن المقال يسرق مني طاقة القص»
(2)
لم تكن لي علاقة خاصة بالدكتور إدريس، ولم أدخل منزله في حياته أبدا، فقد تعرفت عليه في منتصف الثمانينيات على هامش ندوة في هيئة الكتاب، وصدمتني بعض تصرفاته، لكنني احتفظت بصورته الذهنية كما رسمتها في خيالي عبر قراءة أدبه، وعبر الحكايات الشفوية التي نتناقلها عن مواقفه وتصرفاته، واستمر إعجابي بإدريس قاصا ومثقفا مشاكسا، وإنسانا متدفقا، وكانت تناقضاته تزيده غموضا وسحرا، ولا تنال من قيمته، وبعد وفاته قدمت عنه برنامجا تليفزيوينا أعده الزميل الراحل صلاح عزازي، وصورته بنفسي في الأماكن الواقعية التي شهدت مسيرته، ومنها قرية البيروم بالشرقية حيث ولد وقضى طفولته، والتقيت والدته وشقيقه وأفراد أسرته ومعارفه، وجمعت شهادات مصورة لعدد كبير من الأدباء والنقاد والسياسيين، وأحاول هذه الأيام استعادة هذه المواد النادرة من شرائط التصوير الفانية إلى خلود الديجيتال.
(3)
وضعت كل هذه المادة بين قوسين: القوس الأول يبدأ مع العدوان الثلاثي في خريف 1956 حيث اقتحم ذلك الطبيب الشاب نادي القصة في شارع قصر العيني، وصرخ في الجالسين: انتو قاعدين تتسامروا والبلد بتنضرب؟.. لازم نعمل أي حاجة.
تساءل كبار الأدباء باستنكار عن هوية هذا الشاب المتحمس، فقال بعضهم إنه طبيب يهوى الأدب، صدرت له مجموعة قصصية باسم «ارخص ليالي». تكهرب الجو، وكانت صرخة إدريس إعلانا بثورة حركت المياه والأقلام الراكدة في ساحة الثقافة، ورفعت شعار «الفن والأدب في المعركة».
(4)
أما الثاني فكان في لندن أثناء رحلة العلاج، حيث ترددت أنباء الزيارة المرتقبة للرئيس مبارك إلى بريطانيا في يوليو 1991، ولما زاره مسؤول كبير للاطمئنان عليه استنكر إدريس بلغة غاضبة توقيت زيارة رئيس مصر للبلد المستعمر في ذكرى ثورة 23 يوليو، وبعد اسبوع مات إدريس، وتجاهله الإعلام الرسمي عقابا على تصريحه الذي وصفه أحد كتاب السلطة بأنه وصاية مرفوضة من «مجرد كاتب» على رئيس الجمهورية!
(5)
بعد كل هذا.. ماذا كنت أعد للكتابة اليوم؟
كنت أفكر في مناقشة علاقة المثقف بالسلطة، فقد أرسل لي أحد الأصدقاء تسجيلاً للمناظرة التليفزيونية التي أجراها الإعلامي المُبعَد يسري فودة بين الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي وبيني، قبل يومين فقط من التصويت في الانتخابات الرئاسية التي وصلت بالمشير إلى ما هو فيه الآن.
(6)
تأملت بحزن ما يحدث هذا الأيام من تشويه وتحطيم لرمزية القلم ومكانة الصحافة عبر خطوات ممنهجة لتصفية الدور الوطني لنقابة الصحفيين، وتحويلها إلى تابع ذليل للسلطة، كما فعلت مع بعض العاملين بالمهنة، وإذا لم تنجح فيكفي أن تعيد محاولاتها السابقة في تحويل النقابة إلى مجرد ناد اجتماعي بلا صوت ولا يد، ولاحظت عودة «العسكري الأسود» عبر مقالات كثيرة تشجع مسخ الثقافة والصحافة عبر معركة سياسية تقلل من قيمة كل شىء في هذا البلد، لصالح توسيع مشاعر الكراهية والتحريض.
(7)
لذلك فكرت في دراسة هذا النزوع التخريبي والاطمئنان على وعي المقاومة ضده، من خلال تتبع علاقة إدريس بثلاثة رؤوس للسلطة في مصر (ناصر والسادات ومبارك)، فقد لا حظت أن عيد ميلاد إدريس يتزامن بالمصادفة مع ما أسماه السادات «ثورة التصحيح» وأطلق عليه خصوم السادات «انقلاب مايو» وما صاحبه ذلك من ردة على ثورة يوليو وأهدافها، لذلك أتحسس دوما من شعار «تصحيح المسار» إذا كان من يرفعه تيار غائم، لم نعرف له مساراً غير مسار السلطة ودهاليزها، ولم نعرف عنه اهتماما بالتصحيح، لأن في العوج والتعرجات مصلحته ومكافأته..
وغدا نكمل.