كان يجب أن تدرك وزارة الأوقاف مبكراً أن حكاية الخطبة الموحدة لصلاة الجمعة فشلت فشلاً ذريعا منذ بدء التطبيق لسبب جوهرى، وهو أن القضية التى يتم طرحها لهذا المجتمع قد لا تصلح لمجتمع آخر، حتى داخل المدينة الواحدة، فما بالنا بالفارق الكبير بين المدينة والقرية؟! وقد تكون القضية تصلح لهذا المجتمع إلا أنها ليست بالأولوية التى يتطلبها مجتمع آخر.
هناك خطبة تتحدث عن المذهبية: السُّنّة الشيعة وغيرهما، وهى قضية ليست مطروحة بأى حال على النسبة الأكبر من مجتمعاتنا، لماذا إذن نجعل منها قضية، أو أُنشئ منها قضية ليس لها وجود أساساً، قضية الحاكم، طاعته أو الخروج عليه، هى قضية لا تشغل الرأى العام فى الريف عموماً، هى فقط فى أذهان وزير الأوقاف وشركاه، فى إطار التقرب من هذا الحاكم أو ذاك، حتى قضايا المظاهرات والاعتصامات وغيرها من فعاليات المدن بشكل خاص؟
هناك الآن من الظواهر السلبية التى يعيشها المجتمع، كل المجتمع، الكثير والكثير مما هى فى حاجة إلى علاج عن طريق المنابر بالدرجة الأولى، هناك ظاهرة قطع الرحم، كما ظاهرة الطلاق، كما ظاهرة السرقة، كما الغش، كما النكوص بالعهود، كما الكذب، وإن اختلفت جميعها من مجتمع إلى آخر، مما كان يتطلب منح الحرية لكل مديرية أوقاف، على الأقل، لتحديد خطبة الجمعة لديها بما يتوافق مع حاجة وطبيعة كل إقليم، وقد يطلب أحد الخطباء السماح له بالتحدث فى شأن معين، يراه ظاهرة فى القرية التى يُلقى فيها خطبته، أو حتى فى الحى أو المدينة التى يعمل بها، وهو ما يجب السماح به على الفور.
لقد رأينا خطيب أحد المساجد فى أحد الأحياء الراقية بالقاهرة وهو يتحدث نصاً عن أن كل إنسان له (File) أو (Folder) يرصد كل حركاته وسكناته، مضيفاً أن أى (comment) أو (share) أو (like) سوف تُحاسب عليه أمام الله عز وجل، كيف بالله يمكن أن نطلب من الآخر أن يتحدث بنفس الأسلوب فى قرية كفر البدنجان مثلاً، كيف يمكن أن يتحدث هؤلاء جميعاً فى وقت واحد عن الغش فى الزراعة، أو التعدى على الجسور بين الملكيات الزراعية، أو حتى التطفيف فى الميزان، أو ما يتعلق بتجارة المواشى، أو حتى زكاة الزروع، والخراج وخلافه.
نحن فى دولة يزيد عدد سكانها على ٩٠ مليون نسمة، ينتشرون على مساحة مليون كيلومتر مربع، قضايا الوادى الجديد ليست أبداً هى القضايا المطروحة فى محافظات الوجه البحرى، والعكس صحيح، قضايا المحافظات الساحلية ليست هى القضايا التى تشغل محافظات الصعيد، والعكس أيضاً صحيح، وكما هناك مناطق تضم فلاحين أو مزارعين بالدرجة الأولى، هناك مناطق ومدن عمالية بالدرجة الأولى أيضاً، وكما هناك شيخ أو عالم يمكن أن يتحدث بطرق علمية، أو يتقن التحدث عن التكنولوجيا الحديثة، هناك آخر هو الأكثر التصاقاً بأبناء جلدته من الطبقات الكادحة، وهو أيضاً الأمر الذى كان يجب أن يؤخذ فى الاعتبار.
أعتقد أن هذه القضية الخاصة بتوحيد خطبة الجمعة هى أهم أسباب فشل الخطاب الدينى فى الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذى كان يجب تداركه حين فُتح هذا الملف، الذى أصبح يلقى بالمسؤولية على كتب الفقه تارة، وعلى رواة الحديث تارة أخرى، وربما على النصوص الصريحة تارة ثالثة، إلا أننا لم نأخذ فى الاعتبار أن الأدمغة المحركة لهذا الخطاب هى السبب الأول والأخير فيما وصل إليه من انهيار، مما جعله عُرضة لانتقادات الدانى والقاصى عن سوء فهم فى معظم الأحوال.
للأسف، أصبح هناك قطاع عريض من المُصلين، أو مرتادى صلاة الجمعة، يتعمدون الذهاب إلى المسجد متأخراً، عَلَّ وعسى يكون الخطيب قد انتهى من الخطبة، قطاع عريض أصبح يُفضل الجلوس خارج المسجد رغم ذهابه مبكراً، بما يعنى وجود أماكن شاغرة داخل المسجد، إلا أنه لا هؤلاء ولا أولئك يرون أن الخطبة سوف تقدم لهم أى جديد، نظراً لأنها فى معظم الأحيان تتحدث فيما لا يعنيهم، الجميع فى كل الأحوال ينظرون إلى الخطيب على المنبر وكأنه قادم الآن من ديوان عام وزارة الأوقاف، هو مُبرمَج على الكلام فى هذا الموضوع، على استخدام هذه المصطلحات، نعلم جميعاً أن هناك بين الحاضرين من يراقبه لكتابة تقرير بشأنه فى نهاية الخطبة، فى السابق كان التقرير للجهات الأمنية، الآن أصبح هناك أيضاً أحد مفتشى الأوقاف، ليس من أجل الصلاة، ولكن فى إطار الرقابة.
على أى حال، هى قضية أراها على قدر كبير من الأهمية، لأسباب كثيرة تتعلق بإصلاح حال المجتمع على أرض الواقع، ولندع النفاق والرياء وأمور التقرب من الحاكم أو من النظام لوسائل الإعلام بصفة عامة، المقروء منها والمسموع والمرئى، لتكن لدينا ولو وسيلة واحدة تخاطب المواطن بإخلاص، لله ورسوله، دون حاجة من الدنيا، أعتقد أن ذلك سوف يصب فى النهاية فى صالح المجتمع، كل المجتمع، بمن فيه الحاكم.