هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة؟... تقتحم قوات الأمن مقر نقابة الصحفيين ليلا ولأول مرة فى تاريخها الذى تعدى الخمسة والسبعين عاما بأيام، ثم يسارع محرر عسكرى ورئيس تحرير مقرب جدا من الرئاسة ليقول «الرئيس لم يكن يعلم بالأمر». أمران كلاهما خطير، الاقتحام الذى يدل على أن السلطة الحاكمة ليس لديها أدنى حد من المهارة السياسية، وعدم العلم الذى يشى بأن مراكز القوى قد بلغت سطوتها أقصى حد.
هذا وضع يعبر عنه بيت شعر شهير يقول: «إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة... وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم». فلو أن الرئيس يعلم، فكيف لمثله أن يسمح بهذه الخطوة الخطيرة فى هذا الظرف الدقيق الذى تمر به البلاد؟ وكيف له أن يراكم الأزمات على هذا النحو، وهو فى أشد الحاجة إلى تجاوز صغيرها قبل كبيرها؟ ولو أنه لا يدرى، فكيف يترك فى نظامه من يقدم على قرار يفجر الوضع بهذه الطريقة؟ وكيف لهذا الذى يتصرف من وراء ظهر الرئيس أن يعتقد أن هذا مسار يسير؟ وما ومن أوحى له بأن نقابة الصحفيين لقمة سائغة بوسعه أن يهضمها فى ثوان معدودات استغرقها الاقتحام وقنص اثنين من الصحفيين؟ وهل هو يجهل قانون النقابة ومقتضيات السياسة ودقة الظرف؟
أعتقد أن الرواية التى تقول «الاقتحام تم من وراء ظهر الرئيس» ليست دقيقة، وأتمنى أن يكون اعتقادى سليما، فما يترتب على اقتحام نقابة الصحفيين، على فداحته وخطورته وقدر استهجانه، هو أهون بكثير من أن تكون هناك أمور بهذا المستوى تجرى والرئيس لا يعلم، بعد مرور سنتين على توليه مقاليد الحكم.
عموما، هذه ليست المرة الأولى التى يقال فيها مثل هذا الكلام، ومن جانبى كنت من المبكرين بالإشارة إلى ظهور «مراكز قوى» بالبلاد، وذلك فى مقال نشرته فى «المصرى اليوم» قبل شهور، لكن فى واقعة نقابة الصحفيين، أعتقد أن الرئيس يعلم، فوزير الداخلية لم يكن يُقدم على هكذا قرار من دون إبلاغ الرئيس، وإذا كان لم يبلغ، وهو احتمال يظل ضئيلا، فهذا معناه أن الرجل يفتقد ويفتقر إلى الحد الأدنى من السياسة والكياسة، وبقاؤه فى منصبه يشكل خطورة شديدة على البلاد، ولذا فإن مطالبة مجلس النقابة بإقالته هى فى صالح الدولة قبل أن تكون رد اعتبار للصحفيين.
فى الحالتين: الرئيس لا يعلم أو الرئيس يعلم، يكون الرئيس هو المسؤول، فى الأولى هى مسؤوليته عن ترك الأمور بلا ضابط ولا رابط لدرجة أن يقدم وزير فى الحكومة على فعل سيجر على السلطة أزمة خطيرة هى فى غنى عنها، وقد يفقدها عددا جديدا نوعيا من أنصارها بين الصحفيين والكتاب، لتواصل نزيف الشعبية والشرعية.
وفى الثانية يكون الرئيس قد أعطى أمرا متعجلا، أو اتخذ قرارا خاطئا، ولم يقدر حساسية هذا الإجراء، أو يدرك أنه الأول من نوعه فى التاريخ، وأن عواقبه ستكون وخيمة، إذ ستكرس صورة السلطة فى الخارج بأنها قمعية ومعادية لحرية التعبير.
ولا يمكن فى هذه القضية التذرع بتنفيذ القانون، فما فعلته وزارة الداخلية هو انتهاك صارخ للقانون الذى يمنع دخول قوات الأمن إلى مبنى النقابة إلا بحضور النيابة العامة ونقيب الصحفيين أو من يفوضه بأن ينوب عنه، بينما غضت هذه الوزارة النظر عن تنفيذ القانون فى حالات: توفيق عكاشة وقت أن كان يعمل فى خدمة السلطة وحصلت طليقته على حكم بحبسه، وأحمد موسى، وقت أن كان محكوما عليه فى قضية سب وقذف الدكتور أسامة الغزالى حرب، قبل أن يبرئه، ويا للعجب، القاضى الذى عُزل بفضيحة جنسية، ومن قبل مرتضى منصور حين كان مختبئا فى بيت صهره. رغم أن فى بعض هذه الحالات، وحالات أخرى، كانت أحكام قد صدرت بالفعل، وليس مجرد استدعاء من النيابة فى قضية رأى مثلما هو الحال فى موضوع الأستاذين عمرو بدر ومحمود السقا، اللذين تم اقتناصهما من قلب النقابة.
ومن العجب، أنه رغم كل ذلك، يخرج علينا من يقول إن الداخلية قد طبقت القانون، ومن يعلن جهارا نهارا استهانته بكل ردود الأفعال على هذه الخطوة المشينة، وكأن دولة تستورد ثلثى غذائها وتعتمد فى جانب مهم من اقتصادها على الريع بانتظار مداخيل السياحة، ورسوم السفن العابرة لقناة السويس، وتقترض من المؤسسات الدولية، وتنادى بإلحاح على المستثمرين الأجانب ليأتوا إليها، بوسعها أن تزأر فى وجه منتقديها فى ملفى حرية التعبير وحقوق الإنسان، على وجه الخصوص.
ومن العجب أيضا أن يردد الموالون لجهاز الأمن أقوالا من قبيل «الصحفيون يريدون أن يكونوا فوق القانون»، و«الصحفيون يتصرفون وكأن على رأسهم ريشة»، و«نقابة الصحفيين تحولت إلى وكر لإيواء المجرمين»، و«نقيب الصحفيين لا يؤدى ما عليه من مهام حيال الدولة»،، الخ، وينسى هؤلاء أو بمعنى أدق يتناسون أن الصحفى لا يطلب الحرية لنفسه، إنما لمهنته ومهمته، أما حريته الشخصية فهى له كمواطن مصرى، وكسائر الناس، الذين كفل لهم الدستور هذه الحرية وصانها.
أخشى أن تكون هذه أزمة مصطنعة ومقصودة، تعتقد السلطة بها أنها ستغطى وتعمى على مشكلة جزيرتى تيران وصنافير المصريتين، وفق نظرية «الهروب إلى الأمام»، فهذه قضية لا مهرب منها، وما انفتح فيها لم ينغلق، ولن ينغلق بهذه السهولة، فدعاوى رفعت بشأنها أمام القضاء، والبرلمان لم ينظرها بعد، وهناك من يطالب بإعمال الدستور وإجراء استفتاء على اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، والمظاهرات الاحتجاجية التى اندلعت لها بقايا. وبذلك لن يغطى اختلاق مشكلة مع نقابة الصحفيين، إن كان هذا هو المقصود، على المشكلة الأساسية، بل يعمقها ويفاقمها، ويؤثر عليها تأثيرا بارحا وجارحا.
لقد جرب رئيسان سابقان أن يكسرا إرادة الصحفيين، فارتدا على عقبيهما خاسرين. فالسادات هدد بأن يحول النقابة إلى ناد يعلب فيه الصحفيون النرد، لكنه فشل فشلا ذريعا. ومبارك أصدر فى عام 1995 القانون 93 الذى أراد به أن يحول الصحافة من صاحبة الجلالة إلى الآنسة المطيعة، فانتفض الصحفيون عن بكرة أبيهم، ونسوا أو أجلوا ما بينهم من خلافات مهنية وأيديولوجية وما يتعلق بالارتباط بالسلطة، موالاة ومعارضة، ولم ينفكوا حتى تم التراجع عن هذا القانون، وكانت معركة مشهودة، تعاطفت معهم قطاعات واسعة من الشعب، ممن يؤمنون بأن لا توجد دولة مدنية حديثة بلا صحافة حرة، ومن المقدرين للصحافة كشفها للفساد، وتصديها للاستبداد، وانتصارها لقيم الحرية والعدل والمساواة والمواطنة.
إن ما جرى لنقابة الصحفيين فيه خروج على القانون، والعرف السائد، ومقتضيات السياسة، وتصحيحه يحتاج إلى شجاعة تتجاوز مجرد اعتذار أو حتى إقالة وزير الداخلية، وهنا على البرلمان، إن كان حقا يمثل الشعب تمثيلا جوهريا وليس شكليا، ألا يترك هذه المشكلة تمر هكذا بلا مساءلة. ويقع العبء أكثر على النواب ممن ينتمون إلى الجماعة الصحفية وكذلك من الكتاب والمثقفين والساسة المؤمنين بحرية الرأى والتعبير، ليس تحديا للسلطة فى كل الأحوال، إنما استجابة للتحدى الذى وضعه أهل الحكم أمام أرباب القلم، وهو ليس فى أغلب التصرفات تمردا وخروجا، إنما قد يكون نصيحة للسلطة ألا تدخل فى معركة مفتوحة مع الصحفيين، وأن تعتبر مما جرى فى أيام أخر.