الشهر الجارى يمر 100 عام على اتفاق «سايكس بيكو»، الذى تشكلت بموجبه دولتا العراق وسوريا وغيرهما من الدول الهشة بمنطقة الشرق الأوسط الحديث، وقد أظهرت الأسابيع الأخيرة الماضية دليلاً دامغاً جديداً، إذ كان ثمة حاجة من الأساس إلى مزيدٍ من الأدلة على أن الإطار الكولونالى، الذى أطرته بريطانيا وفرنسا، متمثلاً فى الاتفاق المشار إليه سلفاً، والذى تم بموجبه اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، لم يكن ناجعاً أو مجدياً.
بموجب اتفاق «سايكس بيكو» انفصل العراق وسوريا، وصار العراق منقسماً إلى 3 أجزاء متصارعة: المنطقة السنية، ويسيطر عليها تنظيم «داعش» الإرهابى، ودويلة الأكراد التى تتمتع بشبه حكم ذاتى، ومنطقة ثالثة تمتد من العاصمة جنوباً ويسيطر عليها النظام الشيعى، والبنية المشرذمة ذاتها متواجدة فى سوريا.. وبالطبع الحكومة شبه غائبة لدى كلتا الدولتين.
من مقر عمله الواقع بإحدى المناطق الجبلية، والذى يطل على أربيل، أبدى مستشار الأمن القومى، مسرور بارزانى، حكماً صريحاً فى لقاء معى، إذ قال: «منذ 100 عام، ظل نظام واحد يحكم دولة العراق، ولكنه يتهاوى ويخفق اليوم، والسبب أن العراق لم يُبن على الأسس الصحيحة، ولعل 100 عام من الفشل تكون كافية لإنهاء هذا النظام، وتدفع باتجاه التطلع إلى خيارات أخرى».
ويتفق مع «بارزانى» فى الرأى، بارهام صالح، رئيس الوزراء السابق بحكومة إقليم كردستان، نائب رئيس وزراء العراق الأسبق، الذى يرى أيضاً أن العراق صار فى مفترق طرق، فحين تحدثت معه فى مدينة السليمانية الواقعة على بعد 90 ميلاً جنوب شرق البلاد، قال: «إن مشكلة العراق لا تنحصر فى تغيير الحكومة، فالحكومة التى حلتها الإدارة الأمريكية بعد غزو العراق عام 2003 انهارت، لكن العراق صار بصدد حقبة جديدة تستوجب الاختيار بين انهيار فوضوى ينجرف به إلى دولة أمراء حرب، وتدابير دستورية جديدة تخلق نظام حكم لا مركزياً، يتحول فيه العراق إلى دولة كونفيدرالية».
هذه الرؤية ترددت على مسامعى كثيراً خلال زيارتى للعراق، رددها قادة أكراد التقيت بهم، وبعض القادة السنة أيضاً، واتفقوا جميعهم على أن كلاً من سوريا والعراق صارا فى منعطف تاريخى خطير، وأن الأولوية لدى البلدين صارت هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابى، غير أنه يتعين على الولايات المتحدة فى الوقت نفسه أن تتناول مع حلفائها مسألة الهياكل السياسية التى ستشكل مستقبل هذين البلدين، وهو البديل الذى لابد أن يحل محل الإطار الذى رسمه كل من السير مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكوت، والذى يتلخص توصيفه فى كونه أشبه بـ«خطوط مرسومة على الرمال»، وهو البديل كذلك للمغامرة الخاطئة التى خاضتها الولايات المتحدة عام 2003، وما تلاها من قرارات تكشف عن وجه الكولونالية الجديدة.
وفيما يتعلق بما يتعين على الولايات المتحدة أن تفعله، وكيف يمكنها التفكير بقدر من الإبداع يعينها على معالجة الكارثة التى ألحقتها بالعراق وغيره، يمكن ببساطة الرجوع إلى نسق السياسات الأمريكية التى تشكلت عام 1944، ففى هذا العام ظل الانتصار الذى حققته الولايات المتحدة فى الحرب العالمية الثانية ملطخاً بدماء ضحايا الحرب، لكن الرئيس فرانكلين روزفلت كان لديه من التبصر وبُعد النظر ما دفعه إلى الشروع فى التفكير بمؤسسات يمكنها حفظ السلام وتحقيق الرخاء بعد الحرب، وبنهاية ذاك العام بدأ التخطيط المفصل من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين والأمم المتحدة.
وهذا تحديداً هو فحوى التحديات التى يواجهها الرئيس باراك أوباما فيما تبقى من ولايته الرئاسية، وما يواجهه الرئيس القادم خلال الشهور الأولى من ولايته، ويتمثل فى الشروع فى بناء مؤسسات جديدة لنظام جديد فى الشرق الأوسط، يمكنه إرساء بنية أمنية قوية، وأسس حوكمة، ورفاه اقتصادى ينعكس على السنة والشيعة والأكراد وجميع الأقليات التى تدخل فى تكوين النسيج المجتمعى بالمنطقة، وبعبارة أخرى، يتعين مساعدة شعوب المنطقة العربية الممزقة لبناء حكومات وأسس حوكمة قوية وناجعة.
سوف يطرح الأكراد فى القريب استفتاء عامًا بشأن مسألة استقلال الإقليم، وهو ما يتعين على الولايات المتحدة أن تدعمه حالما جرت هذه العملية وفق اتفاق مدروس مع الحكومة المركزية فى بغداد، فقد أخبرنى العديد من القادة السنة والشيعة فى العراق أنهم يرغبون فى دستور جديد لعراق كونفيدرالى يشمل الحكومة السنية والكردية. ولابد بالطبع من إطلاق مفاوضات مماثلة من أجل سوريا كونفيدرالية كجزء أصيل من التحول السياسى فى المنطقة.
إن محاولة الطرق على أجزاء مشرذمة من المنطقة العربية لتجميعها فى كيان واحد ليس بالحل المجدى، فقد حاولت أمريكا اللجوء إليه فى العراق وفشلت، والآن تفعل إيران الشىء نفسه ولكنها وجدت نفسها عاجزة عن الحفاظ على النظام والاستقرار فى العراق، وهو الدرس المستفاد من الاضطرابات التى شهدها البرلمان العراقى ذو الأغلبية الشيعية، الأسبوع الماضى، إذ امتدت المشاجرات داخله إلى صراعات بين الشيعة أنفسهم.
وفى هذا السياق، يقول أحد قادة العراق: «ترتكب إيران الخطأ نفسه الذى ارتكبته الولايات المتحدة عام 2003، إذ تعتقد أن بمقدورها القيام بكل شىء، لكن متراصة الشيعة التى اعتمدت عليها بدأت فى الانهيار».
الواقع أن إنهاء حالة التشرذم التى تخيم على الشرق الأوسط يتطلب جهود جيل كامل، ولكن يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والسعودية وإيران، فى الوقت نفسه، أن تبدأ التفكير بجدية وبشكل عاجل مع شعوب سوريا والعراق بشأن بنى سياسية وحلول جديدة يمكنها معالجة أخطاء الماضى والظلم الذى ساد المنطقة طوال قرن كامل.
نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية
ترجمة- أمانى عبدالغنى