كشفت الأحداث الأخيرة فى معظم البلدان العربية تقريباً، من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى ليبيا، حتى مصر ودول الخليج والدول المغاربية، أن الاستقطاب والانشقاق لم يعد حال شعب بعينه أو دولة بعينها، هو حالة عامة، ليس داخلياً فقط، على العكس تماماً، الأمر أصبح يتعلق بكل القضايا، محلياً وعربياً ودولياً، هو حال الإعلام، كما هو حال النُخب السياسية والثقافية، كما هو الحال بين المسؤولين السابقين واللاحقين، كما هو بين الأنظمة المتعاقبة عموماً، الأيديولوجيات الدينية والسياسية والثقافية أصبحت هى المُحرّك الأساسى للمواقف، الشباب كما الكبار، الأخطر على الإطلاق فيما هو قادم، حيث توريث الحالة فى أبشع صورها للأجيال المقبلة.
قد يكون القصف على مدينة حلب السورية بفعل طيران النظام واضحاً لا لبس فيه، إلا أننا سوف نجد من يُحمِّل المسلحين المناهضين للنظام المسؤولية، وقد تكون المذابح بفعل الميليشيات المسلحة واضحة لا تحتمل التأويل، إلا أننا سوف نجد من يسعى إلى إلصاق الاتهام بالنظام هناك، تفرقت الدماء بين القبائل، القضية الأساسية المتعلقة بالقتلى والدمار والخراب توارت خلف المزايدات والاختلافات الأيديولوجية والعقائدية، فى الحقيقة الضمير الإنسانى هو الذى توارى واختفى، الضمير العربى بصفة خاصة لم يعد له وجود، لَحِق بالضمير الغربى، الذى اعتدنا منه كل ما هو سيئ ومقيت، منذ زمن الاستعمار وحتى الآن.
أذكر هنا إحدى حلقات الراحل الدكتور مصطفى محمود، فى برنامجه الشهير «العلم والإيمان»، حينها قال هذا المعنى: يمكن أن تنتفض كل الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تلك القِطة التى سقطت فى الشارع من شرفة المنزل، فكسرت ساقها، جمعيات الرفق بالحيوان تهرول فزعاً إلى مكان الحادث، جمعيات حماية الطبيعة، مؤسسات الطب البيطرى، سيارات الإسعاف بالعشرات إلى مكان الحادث، سيارات الشرطة كذلك، عُمدة المدينة يصدر بياناً يُطمئن المواطنين، أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب يعبرون عن اهتمامهم، بدء حملة تبرعات بالملايين لعلاج القطة، كل المستشفيات ذات الصِّلة تبدى رغبتها فى استقبالها، برامج التليفزيون فى كل الولايات تخصص مساحات واسعة للحدث، كذلك الصحف.. بِسْم الله ما شاء الله.. ما كل هذه الإنسانية.
فى اليوم التالى مباشرة، تقوم طائرة أمريكية بقصف المدنيين فى دولة ما، قد تكون العراق، أو أفغانستان، أو فيتنام، أو أى قطر آخر، القتلى بالمئات، الجرحى بالآلاف، لن يُحرك ذلك ساكناً فى الضمير الأمريكى، الأكثر من ذلك هو أنهم استخدموا القنابل النووية يوماً ما، قتلوا ملايين البشر من اليابانيين، لم يُحرك ذلك أيضاً قيد أنملة، لا فى الضمير الأمريكى، ولا الضمير العالمى ككل، على هذا أبداً لا يمكن القياس.
ما أردت قوله هو أن أحداً من خارج المنظومة العربية لن ينتفض أبداً للدماء العربية، بالتالى كان الأولى بأبناء كل منظومة الانتفاض لبنى جلدتها، أيضاً حدث العكس لدينا، أصبحت الاتهامات المتبادلة عن قصد وعن تضليل هى العامل المشترك بين الشعوب العربية على مختلف مسمياتها، بل داخل الشعب الواحد، والقطر الواحد، نتيجة حالة الفوضى التى تحياها هذه الأقطار من كل الوجوه، سياسياً واجتماعياً وطائفياً.
مع كل قضية تطرح نفسها على الساحة فى أى قطر عربى، يحب أن نتوقع كل شىء من وسائل الإعلام، كما مواقع التواصل الاجتماعى، أخباراً مدسوسة، صوراً مفبركة، تصريحات كاذبة، فيديوهات مضروبة، لجاناً إلكترونية على مستوى عالٍ من الغباء وانعدام الضمير تعمل لصالح كل فصيل، هنا يصبح المواطن العربى هو الضحية، هو الفريسة لكل ذلك العبث بالعقول، مع كل قرار سياسى كذلك، مع كل اتفاقية خارجية، أو مشروع داخلى، أصبحنا أسرى الأشخاص والشائعات، العقل توقف عن التمييز، بل عن التفكير.
أرى أن الطائفية المذهبية هى العامل المشترك فى كل قضايا الدم والخراب فى العالم العربى الآن، فى السابق وحتى عقد أو أقل من الزمان، كان الأمر يتعلق بأشخاص، كنا نطلق عليهم «متطرفين»، كان يمكن أن يتعلق بجماعات، كنا نعتبرهم «إرهابيين»، كان يمكن أن يتعلق بتنظيمات أو ميليشيات، كنا نعتبرهم «عملاء» لنظام من هنا أو هناك، الأمر الآن أصبح يتعلق بأنظمة وحكومات، بحكام ودول وجمهوريات، بعائلات حاكمة وعلماء دين رسميين، وفتاوى لا تتوقف ليل نهار، تبيح القتل، كما تُحل الخراب والدمار.
فى السابق كان على الحكومات أن تقاوم وتناهض هؤلاء وأولئك، عملاً على وقف التشدد والتطرف، تداركاً لحالة الانقسام التى قد تستشرى فى المجتمع، أى مجتمع، الآن دارت الحياة دورتها، أصبح على الشعوب أن تقاوم السياسات المتطرفة للحكام، سوف تدرك الشعوب أنها هى الضحية فى النهاية، أنها كانت مجرد ألعوبة، لم نشهد أبداً أحد الحكام وقد لقى حتفه فى قصف أو غارة جوية، إلا أن الشعوب تشيِّع ذويها بصفة يومية.. من هنا فقط يمكن أن نعى كم نحن أغبياء.