الدولة بين القضاء والقدر*

جمال الجمل الثلاثاء 03-05-2016 23:50

(1)

ﻗﺎﻝ الملك للفيلسوف: إن ﻛﺎن اﻟﺮﺟﻞ ﻻ ﯾﺼﯿﺐ اﻟﺨﯿﺮ إﻻ بعقله ورأيه، وﺗﺜﺒﺘﮫ ﻓﻲ اﻷﻣﻮر ﻛﻤﺎ ﯾﺰﻋﻤﻮن، ﻓﻤﺎ ﺑﺎل اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺠﺎھﻞ ﯾﺼﯿﺐ الرفعة والخير، والرجل الحكيم العاقل قد يصيب اﻟﺒﻼء واﻟﻀﺮ؟

(2)

قال الفيلسوف: ﻛﻤﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻻ يبصر إﻻ ﺑﻌﯿﻨﯿﮫ، وﻻ ﯾﺴﻤﻊ إﻻ ﺑﺄذﻧﯿﮫ، ﻛﺬﻟﻚ اﻟﻌﻤﻞ، إﻧﻤﺎ ھﻮ ﺑﺎﻟﺤﻠﻢ واﻟﻌﻘﻞ والتثبّت، ﻏﯿﺮ أن اﻟﻘﻀﺎء واﻟﻘﺪر ﯾﻐﻠﺒﺎن ﻋﻠﻰ ذﻟﻚ، كما في قصة اﺑﻦ اﻟﻤﻠﻚ وأﺻﺤﺎبه.

(3)

خرج أرﺑﻌﺔ أﻧﻔاﺮ ﻓﻲ ﻃﺮﯾﻖ واﺣﺪة، أحدهم ابن ﻤﻠﻚ، واﻟﺜﺎﻧﻲ اﺑﻦ ﺗﺎﺟﺮ، واﻟﺜﺎﻟﺚ اﺑﻦ ﺷﺮﯾﻒٍ ذو ﺟﻤﺎل، واﻟﺮاﺑﻊ اﺑﻦ أكَّار (حراث)، وكانوا جميعاً ﻣﺤﺘﺎﺟﯿﻦ، وﻗﺪ أﺻﺎﺑﮭﻢ ﺿﺮر وﺟﮭﺪ ﺷﺪﯾﺪ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻊ ﻏﺮﺑﺔ، ﻻ ﯾﻤﻠﻜﻮن إﻻ ﻣﺎ ﻋﻠﯿﮭﻢ ﻣﻦ اﻟﺜﯿﺎب. ﻓﺒﯿﻨﻤﺎ ھﻢ يمشون إذ ﻓﻜﺮوا ﻓﻲ أﻣﺮھﻢ، وﻛﺎن ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﻨﮭﻢ راﺟﻌﺎً إلى طباعه.

ﻗﺎل اﺑﻦ اﻟﻤﻠﻚ: إن أﻣﺮ اﻟﺪﻧﯿﺎ ﻛﻠﮫ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎء واﻟﻘﺪر واﻟﺼﺒﺮ ﻟﻠﻘﻀﺎء واﻟﻘﺪر واﻧﺘﻈﺎرھﻤﺎ أﻓﻀﻞ اﻷﻣﻮر، وﻗﺎل اﺑﻦ اﻟﺘﺎﺟﺮ: اﻟﻌﻘﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻲء، وﻗﺎل اﺑﻦ اﻟﺸﺮﯾﻒ: اﻟﺠﻤﺎل أﻓﻀﻞ ﻣﻤﺎ ذﻛﺮتم، ثم قال ابن الأكَّار: ﻟﯿﺲ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﯿﺎ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻻﺟﺘﮭﺎد ﻓﻲ اﻟﻌﻤﻞ.

فلما ﻗﺮﺑﻮا ﻣﻦ ﻣﺪﯾﻨﺔ ﯾﻘﺎل ﻟﮭﺎ «ﻣﻄﺮون» ﺟﻠﺴﻮا ﯾﺘﺸﺎورون، ﻓﻘﺎﻟﻮا ﻻﺑﻦ اﻷكَّار: اﻧﻄﻠﻖ ﻓﺎﻛﺘﺴﺐ ﻟﻨﺎ ﺑﺎﺟﺘﮭﺎدك ﻃﻌﺎﻣﺎ ﻟﯿﻮﻣﻨﺎ ھﺬا. فانطلق ابن الأكار، وﺳﺄل ﻋﻦ ﻋﻤﻞ إذا ﻋﻤﻠﮫ اﻹﻧﺴﺎن ﯾﻜﺘﺴﺐ ﻓﯿﮫ ﻃﻌﺎم أرﺑﻌﺔ أﻧﻔاﺮ، فقالوا له: ﻟﯿﺲ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﺷﻲء أﻋﺰ ﻣﻦ اﻟﺤﻄﺐ (أي أنه قليل ويباع بثمن)، وكان الحطب على بعد فرسخ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﻓﺎﺣﺘﻄﺐ، وأﺗﻰ ﺑﮫ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﻓﺒﺎﻋﮫ ﺑﺪرھﻢ واﺷﺘﺮى ﺑﮫ ﻃﻌﺎﻣﺎ، وكتب على باب المدينة: «عمل يوم واحد إذا أجهد فيه الرجل بدنه قيمته درهم»، ﺛﻢ اﻧﻄﻠﻖ إﻟﻰ أﺻﺤﺎﺑﮫ ﺑﺎﻟﻄﻌﺎم ﻓﺄﻛﻠﻮا.

(4)

ﻓﻠﻤﺎ جاء الغد: ﻗﺎﻟﻮا ﯾﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﺬي ﻗﺎل إﻧﮫ ﻟﯿﺲ ﺷﻲء أﻋﺰ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎل أن ﺗﻜﻮن نوبته. ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ اﺑﻦ اﻟﺸﺮﯾﻒ ﻟﯿﺄﺗﻲ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ، ﻓﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﮫ وﻗﺎل: أﻧﺎ ﻟﺴﺖ أُﺣﺴِﻦ ﻋﻤﻼً، ﻓﻤﺎ ﯾﺪﺧﻠﻨﻲ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ؟، ﺛﻢ اﺳﺘﺤﯿﺎ أن ﯾﺮﺟﻊ إﻟﻰ أﺻﺤﺎﺑﮫ ﺑﻐﯿﺮ ﻃﻌﺎم، وفكر في مفارقتهم، ﻓأﺳﻨﺪ ﻇﮭﺮه إﻟﻰ ﺷﺠﺮة ﻋﻈﯿﻤﺔ، وغلبه اﻟﻨﻮم فنام، ثم ﻤﺮ ﺑﮫ رﺟﻞ ﻣﻦ عظماء اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﺮاﻗﮫ ﺟﻤﺎﻟﮫ وﺗﻮﺳم فيه صفات أولاد الأصول، ﻓرقَّ ﻟﮫ، وﻣﻨﺤﮫ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ درھﻢ، ﻓﻜﺘﺐ ﻋﻠﻰ ﺑﺎب اﻟﻤﺪينة: «ﺟﻤﺎل ﯾﻮم واﺣﺪ ﯾﺴﺎوي ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ درھﻢ»، وأﺗﻰ ﺑﺎﻟﺪراھﻢ إﻟﻰ أﺻﺤﺎبه.

(5)

ﻓﻠﻤﺎ أﺻﺒﺤﻮا ﻓﻲ اﻟﯿﻮم اﻟﺜﺎﻟﺚ، قالوا لابن التاجر: اﻧﻄﻠﻖ أﻧﺖ ﻓﺎﻃﻠﺐ ﻟﻨﺎ ﺑﻌﻘﻠﻚ وﺗﺠﺎرﺗﻚ ﻟﯿﻮﻣﻨﺎ ھﺬا ﺷﯿﺌﺎ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ اﺑﻦ اﻟﺘﺎﺟﺮ ﻓﻠﻢ ﯾﺰَل ﺣﺘﻰ رأى ﺴﻔﯿﻨﺔ ﻣﻦ ﺳﻔﻦ اﻟﺒﺤﺮ ﻛﺜﯿﺮة اﻟﻤﺘﺎع ﻗﺪ ﻗﺪﻣﺖ إﻟﻰ اﻟﺴﺎﺣﻞ، ﻓﺨﺮج إﻟﯿﮭﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺘّﺠﺎر ﯾﺮﯾﺪون أن ﯾﺒﺘﺎﻋﻮا ﻣﻤﺎ ﻓﯿﮭﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﺘﺎع، وﺠﻠﺴﻮا ﯾﺘﺸﺎورون ﻓﻲ ﻧﺎﺣﯿﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﺮﻛﺐ، وقال بعضهم لبعض: ﻻ ﻧﺸﺘﺮي ﻣﻨﮭﻢ ﺷﯿﺌﺎ، ﺣﺘﻰ ﯾﻜﺴﺪ اﻟﻤﺘﺎع ﻋﻠﯿﮭﻢ ﻓﯿﺮﺧﺼﻮه ﻋﻠﯿﻨﺎ، ونحن محتاجون إليه، ﻓذهب إﻟﻰ أﺻﺤﺎب اﻟﻤﺮﻛﺐ، فابتاع منهم المتع بمائة أﻟﻒ دﯾﻨﺎر ﻧﺴﯿﺌﺔ (مؤجلة الدفع) وأﻇﮭﺮ أﻧﮫ ﯾﺮﯾﺪ أن ﯾﻨﻘﻞ ﻣﺘﺎﻋﮫ إﻟﻰ ﻣﺪﯾﻨﺔ أﺧﺮى، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﻤﻊ اﻟﺘﺠﺎر ذﻟﻚ ﺧﺎﻓﻮا أن ﯾﺬھﺐ اﻟﻤﺘﺎع ﻣﻦ أﯾﺪﯾﮭﻢ، ﻓﺄرﺑﺤﻮه ﻋﻠﻰ ﻣﺎ اﺷﺘﺮاه مائة ألف درهم، فدفع لأصحاب المركب، وﺣﻤﻞ رﺑﺤﮫ إﻟﻰ أﺻﺤﺎﺑﮫ، وﻛﺘﺐ ﻋﻠﻰ ﺑﺎب اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ: «ﻋﻘﻞ ﯾﻮم واﺣﺪ ﺛﻤﻨﮫ ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ درھﻢ».

(6)

ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﯿﻮم اﻟﺮاﺑﻊ ﻗﺎﻟﻮا ﻻﺑﻦ الملك: اﻧﻄﻠﻖ أﻧﺖ واﻛﺘﺴﺐ ﻟﻨﺎ ﺑﻘﻀﺎﺋﻚ وﻗﺪرك، فاﻧﻄﻠﻖ ﺣﺘﻰ أﺗﻰ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﻓﺠﻠﺲ ﻋﻠﻰ بابها ﻣﺘﻜﺄً، واﺗﻔﻖ أن ﻣﻠﻚ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﺎﺣﯿﺔ ﻣﺎت ولم يخلف ولداً ولا أحدا ذا قرابةٍ، فمروا ﻋﻠﯿﮫ ﺑﺠﻨﺎزة اﻟﻤﻠﻚ فلم ﯾُﺤﺰﻧﮫ وﻛﻠﮭﻢ ﯾﺤﺰﻧﻮن، ﻓﺄﻧﻜﺮوا ﺣﺎﻟﮫ وﺷﺘﻤﮫ حارس اﻟﺒﻮابة، وقال له: ﻣﻦ أﻧﺖ ﯾﺎ ھﺬا؟ وﻣﺎ ﯾﺠﻠﺴﻚ ﻋﻠﻰ ﺑﺎب اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ وﻻ ﻧﺮاك ﺗﺤﺰن ﻟﻤﻮت اﻟﻤﻠﻚ؟، وﻃﺮده ﻋﻦ اﻟﺒﺎب، فلما ذھﺒﻮا ﻋﺎد ﻓﺠﻠﺲ ﻣﻜﺎنه. وﻠﻤﺎ دﻓﻨﻮا اﻟﻤﻠﻚ ورﺟﻌﻮا رآه حارس اﻟﺒﻮابة ﻓﻐﻀﺐ، وﻗﺎل ﻟﮫ: أﻟﻢ أﻧﮭﻚ ﻋﻦ اﻟﺠﻠﻮس ﻓﻲ ھﺬا الموضع؟ وأﺧﺬه وﺣﺒﺴﮫ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻐﺪ اﺟﺘﻤﻊ أھﻞ اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﯾﺘﺸﺎورون ﻓﯿﻤﻦ يُمَلِّكونه ﻋﻠﯿﮭﻢ، وﻛﻞﱞ ﻣﻨﮭﻢ ﯾﺘﻄﺎول وﯾﺨﺘﻠﻔﻮن ﺑﯿﻨﮭﻢ، ﻓﻘﺎل ﻟﮭﻢ حارس اﻟﺒﻮابة: إﻧﻲ رأﯾﺖ أﻣﺲ ﻏﻼﻣًﺎ جالسًا على الباب، وﻟﻢ أره ﯾﺤﺰن ﻟﺤﺰﻧﻨﺎ، ﻓﻜﻠﻤﺘﮫ ﻓﻠﻢ ﯾﺠﺒﻨﻲ، ﻓﻄﺮدﺗﮫ ﻋﻦ اﻟﺒﺎب، ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺪت رأﯾﺘﮫ ﺟﺎﻟﺴﺎً، ﻓﺄدﺧﻠﺘﮫ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﺨﺎﻓﺔ أن ﯾﻜﻮن ﻋﯿﻨﺎً (جاسوساً) ﻓﺒﻌﺜﺖ أﺷﺮاف اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﻓﺠﺎءوا باﻟﻐﻼم، وﺳﺄﻟﻮه ﻋﻦ ﺣﺎﻟﮫ، وﻣﺎ أﻗﺪﻣﮫ إﻟﻰ ﻣﺪﯾﻨﺘﮭﻢ، فقال: أﻧﺎ اﺑﻦ ﻣﻠﻚ «فويران»، فأثنى الأشراف على أبيه خيراً واختاروه ملكاً عليهم، وكان من سننهم أن يحملوا الملك الجديد على ﻓﯿﻞ أﺑﯿﺾ ويطوفوا به المدينة، وعند الباب ﺮأى اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ، ﻓﺄﻣﺮ أن ﯾُﻜﺘﺐ: إن اﻻﺟﺘﮭﺎد واﻟﺠﻤﺎل واﻟﻌﻘﻞ وﻣﺎ أﺻﺎب اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﯿﺎ ﻣﻦ ﺧﯿﺮ أو ﺷﺮ، إﻧﻤﺎ ھﻮ ﺑﻘﻀﺎء وﻗﺪر ﻣﻦ ﷲ ﻋﺰ وجل، وﻗﺪ ازددت ﻓﻲ ذﻟﻚ اﻋﺘﺒﺎرًا بما ساق الله إليَّ من الكرامة والخير.

(7)

فلما ﺠﻠﺲ ابن الملك ﻋﻠﻰ العرش أرﺳﻞ إﻟﻰ أﺻﺤﺎﺑﮫ، ﻓﺄﺷﺮك ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻊ اﻟﻮزراء، وضم ﺻﺎﺣﺐ اﻻﺟﺘﮭﺎد إﻟﻰ أﺻﺤﺎب اﻟﺰرع، وأمر لصاحب الجمال بمالٍ كثير، ثم نفاه.

(8)

ترى لماذا نفاه؟

- أجاب الفيلسوف إجابة زمانه، فما إجابتكم في زمانكم؟

(9)

إجابتي أن الحصول على المُلك شيء، وإدارة الدولة شيء آخر.

..........................................................................................................................................

* من حكايات «كليلة ودمنة»

tamahi@hotmail.com