كنت فى زيارة إلى إنجلترا. يصاحبنى صديق صحفى مرموق. ركبنا القطار لمشاهدة مباراة كرة قدم خارج لندن. رحلة استغرقت 3 ساعات. على يمين ويسار القطار بامتداد الطريق أراضٍ زراعية على مرمى البصر. هو الحال نفسه فى أوروبا كلها.
كلما اجتاز القطار مسافة ربتُّ على يد صديقى مازحاً. لأقول له عبارة «مصر بلد زراعى». هذه المقولة أو الأكليشيه. طالما رددناها مراراً وتكراراً. لم نفكر فى معناها. ليس هذا فحسب بل نقوم بتدريسها لتلاميذ المدارس فى مرحلة التعليم الأساسى. إنها مقولة تخالف الواقع تماما. لا تمت للحقيقة بصلة. مصر صحراء جرداء. باستثناء الدلتا والوادى. اللذين لا تزيد مساحتهما على 7% من المساحة الإجمالية لمصر. كما أن هذه الـ7% ليست صافية بل نسبة ناقصة، لأن عليها حياة المصريين من زراعة وصناعة وتجارة ومبانٍ وسكك حديدية وطرق وكل شىء. باقى أراضى مصر وجزرها وشواطئها «ممنوع الاقتراب أو التصوير».
لا أتصور أن وزيراً للزراعة وقف للتفكير فى هذه المقولة. لا الحالى ولا من سبقه وقد لا يفعل الوزير القادم. لأننا نعيش فى هذه التابوهات منذ عقود. لا يفكر أحد فى مراجعتها أو فهمها. وبالتالى التحرك كان يأتى دائما فى إطار الفهم الخاطئ للبيئة التى نعيش فيها.
مصر بلد صحراوى. هذه هى الحقيقة. والتى يجب أن نتحرك فى ظلها. وفى مقدمتنا وزير الزراعة. مهامه تتقاطع بالطبع مع وزارة الرى. ترك للرى تخطيط وزراعة مليون ونصف فدان. بدون دراسة جدوى مسبقة. بدون ترتيب للأولويات. ترك له إدارة ملف الرى بالكامل دون تدخل منه أو حتى نصيحة. بأهمية تحديث منظومة الرى. ترك له التحدث فى الزراعة وشؤونها بالإجمال.
كنت أتمنى أن أرى الزراعة والرى وزارة واحدة وسياسات متكاملة. حديثة. تعتمد أفضل الأفكار فى العالم. يشعر كبار المسؤولين فيها بالغيرة من التجارب الناجحة فى الزراعة لدى الجيران. فى الأردن. فى إسرائيل. التى سبقتنا بمراحل أو بسنوات ضوئية فى الزراعة الصحراوية. فى ترشيد استخدام المياه. استغلالها بأفضل طريقة ممكنة. الحصول على أفضل منتجات. ثم تكتمل المنظومة لتجد صادراتها مكانا فى أفضل أسواق العالم. أيضا الأردن منافس قوى. توسع فى الزراعة الصحراوية. ليس لديها نهر. يعتمدون على الآبار والأمطار عن طريق شبكة رى حديثة متطورة.
ما قام به محمد على وأولاده وأحفاده من شق للترع. يجب البحث فى تحويلها إلى أنابيب ضخمة لا تسمح بهدر المياه تسرباً أو بخراً. لم نعد عشرة ملايين أو عشرين. نحن نقترب من المائة مليون. ولدينا لم يختلف شخص فى التفكير. مازلنا وراء خرافة الاكتفاء الذاتى من القمح. مازلنا وراء الشعار الأجوف «من لا يملك غذاءه لا يملك قراره». حتى فقدنا القرار وفقدنا الغذاء.