يرجع الفضل الأكبر في استمراروازدهار الحضارة المصرية القديمة ووصولها إلينا بهذ الشكل المدهش الذي ما يزال خيال العالم أجمع وكل من يزور أو يشاهد آثارنا المصرية القديمة في الداخل والخارج إلى إيمان المصرى القديم بالعمل كقيمة عظمى في حياته الأولى وحياته الثانية الأبدية بعد الموت التي لم يكن من ورائها فناء. وليس هذا فحسب فلقد آمن المصريون القدماء بأن اتقان العمل من الأشياء الطيبة المحببة التي يرضى عنها الرب ومن أجلها يكرم صاحب العمل المتميز في دنياه ويديم ذكراه بعد موته ويجعله من المخلدين في دار الآخرة حيث النعيم الأبدى.
وبالنظر إلى كل الآثار المصرية القديمة، على تنوعها وثرائها الأخاذ، فإن الشك لا يساور المتأمل منا لتلك الحضارة وإلى آثارها العظيمة في وجود نظام إدارى محكم قام بالإيمان بالعمل كقيمة وتذليل كل العقبات أمام فريق العمل حتى يتجاوز مرحلة أداء العمل إلى الوصول إلى مرحلة الإبداع في العمل والاندماج فيه حتى تتحق لنا تلك المعجزة المسماة بـ«مصر القديمة» التي لم تكرر أبدا ولن تكرر كثيرا ولا تضاهيها أية حضارة كانت في الماضى أو الحاضر.
لقد كان الملك المصرى القديم هو الحاكم الفعلى المتنفذ في إدارة شؤون البلاد منذ بداية توحيد مصر على يد الملك مينا– في حوالى عام 3000 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام أي منذ حوالى 5000 سنة- إلى نهاية مصر الفرعونية في عام332 قبل الميلاد عندما احتل الإسكندر الأكبر مصر ثم دخول مصر المرحلة البطلمية من بعده وصارت مصر دولةيحكمها الغرباء لقرون عديدة. وبصفة الملك رأس الدولة والسلطة المركزية متمثلة في جميع السلطات التشريعية والحربية والتنفيذية فضلا عن رئاسته للسلطة الدينية والكهنة، فقد كان دور الملك الأساس هو إدارة شؤون البلاد وتسيير الأعمال بشكل متناغم من أجل اتقان العملوزيادة الإنتاج وإطعام الشعب وإمداد معابد الآلهة بالأوقاف المطلوبة من أجل استمرار الرخاء والأمن والأمان في طول البلاد وعرضها والدفاع عن مصر وحدودها وإقامة العدالة على أرضها الطيبة. وكان الملك المصرى يحكم مصر نيابة عن آلهة مصر الكبار باعتباره ابن الآلهة والوريث الشرعى لهم على الأرض. وهكذا كان الحاكم المصرى مصدر السلطات مجتمعة ورأس إدارة العمل.
ولا يعنى العمل العمال الحرفيين أو الفنيين المهرة، كما يعتقد الكثيرون، وإنما كان يعنى بالعمل العمل علىكل المستويات في الدولة المصرية العريقة ولا يتسثنى من ذلك المستويات العليا لإدارة الدولة ممثلة في الملك كنائب عن الآلهة في إدارة البلاد والوزير ممثلا للملك ثم حكام الأقاليم ممثلين للسلطة التنفيذية. ولا يمكن أن ينسى في هذا السياق التعاليم العظيمة الموجهة من الملك للوزير والتى يجب أن يتقنها كى ينجح في إدارة الأعمال في البلاد مثلما جاء في تعاليم الملك تحوتمس الثالث لوزيره المعروف رخميرع والموجودة في مقبرته رقم 100 في مقابر نبلاء البر الغربى لمدينة الأقصر في صعيد مصر الغالى علينا جميعا. وفى تلك التعليمات يرشد الملك وزيره إلى كيفية وحسن إدارة العمل في البلاد وإقامة العدل وتجويد العمل. وحفلت النصوص والمناظر المصرية القديمة بالحث العمل وتقديسه. وفى تعاليم الوزير بتاح حتب عدد كبير من الإرشادات المتعلقة بالعمل وكيفية التعامل بين الرئيس في العمل وموظفيهالتى تعد دليلا للمديرين الأذكياء إلى يومنا هذا. وكذلك الأمر في نصوص السيرة الذاتية لكبار الموظفين والتى امتلأت بالتأكيد على إعطاء العمال الذين عملوا في مقابر هؤلاء الموظفين أجورهم كاملة من الخبز والجعة. وألح الموظفون المصريون القدماء في تلك السير على تفانيهم في اتقان أعمالهم وإنجاز الأعمال التي كلفوا بها من قبل الملك على أكمل وجه كى ينعموا باستمرارية القرابين إلى مقابرهم بعد وفاتهم واستمرار ذكراهم الطيبة في وجدان الأجيال القادمة وضمان إحسان الآلهة إليهم في العالم الدنيوى والعالم الآخر حيث حياة أبدية سرمدية بلا موت.
وأمدتنا المدن المصرية القديمة الخاصة بالعمال في عدد من المواقع الأثرية المهمة مثل مدينة العمال بناة الأهرام في هضبة الجيزة من عصر الدولة القديمة واللاهون من عصر الدولة الوسطى وتل العمارنة في مصر الوسطى ودير المدينة في الأقصر من عصر الدولة الحديثة بمعلومات عديدة ووفيرة عن طرق العمل وتنظيمه والفرق التي كانت تعمل بها وطرق حياتها والأمراض التي حدثت لهم وأسباب وفاة بعضهم أثناء العمل.لقد كان تقسيم وإدارة العمل واتقانه في مشروع عملاق كبناء الهرم الأكبر عمل به عدد كبير من العمال على مدار زمنى طويل هو المعجزة الكبرى والأهم وراء بناء تلك المعجزة المعمارية التي لا تكرر كثيرا، بغض النظر عن الإعجاز المعمارى والفلكى والهندسى.
وفى النهاية أقول ما أحوجنا في مصر اليوم لأن نقتدى بأجدادنا الفراعنة في حبهم واتقانهم للعمل حتى تصل مصر العظيمة إلى ما تحب وتصبو إليه وتنتصر على كل التحديات التي تواجه أم الدنيا حتى تصبح سيدة العالم كما كانت وستنظل دائما وأبدا.