ربيع القومية المصرية (1)

إبراهيم الجارحي الإثنين 02-05-2016 19:19

هذا هو المقال الأول في سلسلة مقالات أكتبها تباعا عن التيار المغيب في السياسة المصرية، التيار القومي المصري، والذي على الرغم من أنه هو القوة الدافعة الأكبر للمجتمع المصري منذ سنوات خمس، إلا أنه ما زال بعيدا عن التحليل أو حتى التسمية.

وللتوضيح فإن مصر يقودها بالفعل في الوقت الحالي تيار قومي مصري بدعم من اليمين الذي يؤمن بالمبادئ القومية دون أن يتكلم عنها كثيرا، فالكتلة القومية كلها تؤمن بضرورات القوة العكسرية الممتدة، وباستقلال القرار الوطني سياسيا واستراتيجيا، وبإقامة اقتصاد وطني قوي شريف تحكم دوافعه أغراض البناء والصعود الاقتصادي، لا أغراض الربح الرأسمالية الاعتيادية.

ولمزيد من التوضيح، فإن التيار القومي المصري ليس مادة للتحليل السياسي بالشكل الواجب، حتى منذ إرهاصاتها الأولى عندما ظهر للمرة الأولى على استحياء قبل نهايات القرن التاسع عشر، وهذه ليست مصادفة، وليست نتيجة لتكاسل المحللين أو الكتاب أو حتى السياسيين.

فقد جاء ذلك نتيجة لتغييب هذا الفكر الذي يسهل جدا أن يستقطب العداء من اليمين الإسلامي، الذي يقوم على هدم القوميات الوطنية لصالح قومية إسلامية واحدة عالمية تكون فيها "الحدود تراب"، وتكون فيه الثقافة "فريضة".

كما يستقطب بالتأكيد عداء صريحا من القوميين العروبيين الذين بنوا أدبيات قوية وكاسحة في منتصف القرن الماضي، حتى أصبحت كلمة "القومية" نفسها مرادفا مختصرا للقومية العربية.

وإضافة إلى ذلك يمكن نسبة القوميات الوطنية بسهولة إلى الفاشية، وهي نسبة خطيرة بالنظر إلى ما أنشأته آلات إعلام الدول المنتصرة في الحرب، ورسخت به أكاذيبها بأن الفاشية اتجاه فكري وسياسي معاد للإنسانية في العموم، أو أنها مرض سلوكي أو انحراف سياسي لا يقومه إلا البتر.

والفاشية نظام من النظم السياسية لا يستلزم بالضرورة الصفة الدموية التي ظهر بها في فترة ما بين الحربين وخلال الحرب الثانية، لكنها بعد الحرب الثانية أصبحت تهمة وجناية، وألحقت القوميات الوطنية بتهمة الفاشية من باب الاستسهال الدعائي.

وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تجد القومية المصرية منفذها إلى الأحوزة السياسية والاقتصادية والعسكرية على خلفيتها الوطنية المميزة، جاء توجه الحقبة الناصرية لصالح قومية أوسع مساحة وأضحل عمقا، وهي القومية العربية.

فالقومية العربية تقوم على وحدة اللغة – واخترع لها فيما بعد وهم أنها تقوم على وحدة المصير إن شاء الله – لكنها في الوقت نفسه تعادي اليمينية الإسلامية التي تعتبر نفسها في نفس الدائرة الجغرافية وكيلا حصريا للعروبة، ولها فيه بدل اللغة لغة ودينا.

وعجلت قومية الخمسينيات والستينيات بتقليم أظافرها وكسر أنيابها بنفسها بتخلصها من مظاهر القوميات الوطنية في مصر وسوريا والعراق، وكانت هزيمة هذا التيار العسكرية المشينة في 1967 نقطة النهاية لهذا المشروع، ونقطة استئناف للقومية المصرية.

وبعد حرب أكتوبر تضاعفت فرص صعود التيار القومي المصري الذي انتصر جيشه على العدو الذي هزم المشروع العروبي مجتمعا، كما أسهمت المقاطعة العربية بعد توقيع الرئيس السادات لمعاهدة السلام مع إسرائيل في توفير مناخ أكثر ملاءمة لازدهار القومية المصرية وتحديد صفاتها.

لكن اغتيال السادات وما أعقبه من صراع مرير خاضته الدولة المصرية مع التطرف الإسلامي، إضافة إلى الجمود الرهيب الذي ضرب الحياة السياسية والفكرية كلها في عصر مبارك، أدى إلى تعطيل الفكر القومي المعطل أصلا بفعل العداءات المحتملة.

وكان الثلاثون من يونيو تحولا دراماتيكيا في تاريخ القومية المصرية، لأنه أولا أطاح بحكم جماعة إسلامية تحتقر القومية المصرية وكل القوميات في العموم، ولأنه ثانيا اقتحم الباب الذي كان مخيفا من قبل - باب العداء المحتمل مع الإسلام – لكنه سده بنفس القوة الخاطفة عندما حاصر الجماعة وأنصارها في مربع العنف اليائس.

ومع تصاعد القوة العسكرية المصرية مدفعا بمدفع وطلقة بطلقة، ومع كل ضربة معول وكل حجر يرفع على حجر في مشروعات الصعود الاقتصادي التي تديرها الدولة بعقيدتها القومية الرامية إلى التفوق، يقترب صعود القومية المصرية من أهدافه بهدوء وصمت آن له أن ينتهي.