هذه الهجمة الشرسة المتصاعدة على «نقابة الصحفيين» مؤخراً، وصولاً إلى «اقتحام» الشرطة لمقر نقابة الصحفيين مساء الأحد الماضى، بحجة تنفيذ أمر النيابة العامة بضبط وإحضار زميلين صحفيين.. فى سابقة هى «الوحيدة» طوال عُمر النقابة الممتد لـ75 عاماً، وبها تكون «الداخلية» قد دهست بالنعال «قانون نقابة الصحفيين» وذبحته، انتهاكاً للحصانة التى يوفرها لـ«قصر صاحبة الجلالة الصحافة»، إذ إن تفتيش مقار النقابة محظور وغير جائز إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب الصحفيين أو ممثل عنه (مادة رقم 70)، ومن المفارقات أن هذا القانون الذبيح صدر عام 1970، فى الأيام الأخيرة من العصر الناصرى الموصوف بـ«الاستبدادى».
تبدو آلة الحُكم وعصاه الغليظة فى حالة حماقة وغضب جنونى من «الصحافة»، كما لو كانت الأخيرة سبباً لكل المشكلات، بما يدفعنا للتساؤل: هل أسقط «الصحفيون» الطائرة الروسية وفجَّروها، وخطفوا طائرة مصر للطيران بحزام ناسف «وهمى»؟، ومن ثم فقدان السياحة واغتيالها.. أم هو الإهمال فى مطاراتنا؟.. هل فشلوا فى كشف غموض جريمة تعذيب وقتل الطالب الإيطالى جوليو ريجينى، وأعلنوا تصفية «عصابة خطف الأجانب» وألصقوا بها تهمة قتل ريجينى، ثم تراجعوا.. أم وزارة الداخلية؟.. هل تسبَّبوا فى أزمة الدولار وجنون أسعاره وما يترتب عليها من تدهور معيشى وإنتاجى.. أم هو البنك المركزى وقياداته وقراراتهم العرجاء؟.. وهل الصحفيون وراء الفشل الاقتصادى والاعتماد على الاستدانة والمعونات، وتدنى الإنتاج والاستثمارات.. أم السياسات الحكومية العقيمة؟.. هل هم صانعو فتنة تيران وصنافير.. أم غياب الإدراك الحكومى للسياسة؟.. وهل الصحافة وراء تمكين إثيوبيا من إنجاز القسم الأكبر من السد.. أم الوفد الحكومى المفاوض؟.. هذه الحماقة الحكومية أو الأمنية المتفردة هى انتحار سياسى وفضيحة دولية سنعانى من توابعها لاحقاً، وكأنه لا يكفينا ريجينى وما جلبه علينا.
إن «الصحفيين» نقابة مهنية عريقة لها مكانتها محلياً ودولياً، عنوان لوجود حريات، لو كان أهل الحُكم يفقهون.. أعضاؤها يمارسون مهنتهم متسلحين بالقلم والكاميرا وكمبيوتر أو تليفون ذكى، ينقلون الخبر والمعلومة والتقرير والتحقيق والتحليل والرأى إلى «المواطن» صاحب الحق فى المعرفة والوقوف على ما يدور فى بلاده، نفاذاً لمهمة دستورية نبيلة مسندة إلى «الصحافة»، هى إعمال «الرقابة الشعبية».. فإن تقاعست عن هذه المهمة المقدسة تكون قد خانت الدستور وشرف المهنة وفقدت الاعتبار والثقة، لذا فقد حرصت الدساتير والقوانين المتعاقبة على توفير الحصانة للصحفى ومقار النقابة، فهى بمثابة ريشة على رأس الصحافة إذا جاز التعبير، وهى تتحول إلى «ريشات» على رؤوسنا نحن الصحفيين.. نعم.. لصالح المهنة ولزومها، مثلما أن للمحامى حصانة وهو يدافع عن المتهمين، والقاضى وهو يقضى بين الناس، وضابط الشرطة، وهكذا الوزير والرئيس ونواب البرلمان.. كل بما يلائم ظروف وظيفته أو مهنته.
دون لف ولا دوران.. فإن مشكلة الحكومة مع نقابة الصحفيين تكمن فى لجوء أصحاب المظالم والمحتجين فئوياً وسياسياً إلى «سلالم» النقابة باعتبارها ملاذاً آمناً، ومنبراً يضمن للشاكين أو المحتجين وصول صوتهم عبر الإعلام إلى الرأى العام.. ولا أرى غضاضة فى هذا.. طالما أن المظاليم أو المحتجين يلتزمون بالتعبير السلمى عما يجيش بصدورهم أو يرددون هتافاتهم أياً كانت، وبعدها ينصرفون فى هدوء.. فهذا لا يمثل خطراً على الدولة.. بل الخطر هو فى إغلاق كافة المنافذ للتعبير وكبت ما فى الصدور.. والمثل الشعبى يقول ببساطة شديدة «إن الكبت يولد الانفجار».. ثم.. ماذا يمنع من اعتبارها مثل «حديقة هايد بارك» بلندن حيث يستطيع كل الغاضبين وأصحاب الرأى الذهاب إليها ليقولوا ما يشاءون دون أى عوائق؟.. كما أن هناك ميزة أخرى لتجمع المحتجين فى مكان واحد على سلالم النقابة: أن يركز الأمن جهوده فى تأمينهم دون إرباك الشوارع، والمطاردات على شاكلة ما جرى بشوارع المحروسة يوم 25 إبريل الفائت.
حتماً الصحافة ستنتصر.. هذه هى طبائع الأمور، وسيذهب وزير الداخلية إن عاجلاً أو آجلاً، وستبقى الصحافة حرة أبية.
نسأل الله السلامة لمصر.