مصر وإسرائيل نموذجان.. الدولة المحترمة والدولة المحتلة

إبراهيم البحراوي الأحد 01-05-2016 20:38

حدثان كبيران شهدهما العالم أخيراً فى دولتين بالشرق الأوسط هما مصر وإسرائيل. كل حدث منهما يقدم نموذجا لدرجة التحضر ونوع القيم التى تحكم كل دولة، وهما نموذجان متناقضان فيما يتعلق بالاستعداد النفسى والعقلى للاعتراف بحقوق الآخرين.

مصر الدولة الأطول عمرا وتاريخا فى العالم، والتى يتجاوز عمرها سبعة آلاف سنة مثبتة بالآثار التاريخية، وأيضا بروايات العهد القديم، كتاب اليهود المقدس، كانت مستعدة للاستماع بتفهم وتجاوب وبدون أطماع مسبقة أو محاولات للتزييف إلى دولة أخرى تطالب بما تعتبره حقا لها عند مصر، وهى المملكة العربية السعودية.

عرضت السعودية على الحكومة المصرية ما لديها من مستندات تاريخية تدل على تبعية جزيرتى تيران وصنافير لسيادتها عام ١٩٨٩.

أصبح معروفا كيف تصرفت الحكومات المصرية فى الموضوع، بدءا بتشكيل لجنة من المتخصصين لدراسة الطلب السعودى بوزارة الخارجية أيام الرئيس حسنى مبارك، ووصولا إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين أيام الرئيس عبدالفتاح السيسى.

صحيح أن المجتمع المصرى شهد مجادلات كثيرة حول الاتفاقية، غير أننى أتحدى أى مراقب سياسى فى العالم يقول إنه لاحظ أطماعا توسعية مسبقة لدى أى مصرى ممن يشاركون فى الحوار المجتمعى حول الموضوع. ذلك لأن ما يحدث فى مصر، فى حقيقة الأمر، كما أراه على شاشات الفضائيات وأسمعه فى مجالس المجتمع هو نوع محترم من البحث التاريخى، والمقارنة العلمية بين المستندات والوثائق متضاربة الدلالات. إنها أبحاث وهى مقارنات تستهدف جميعا التثبت من الحقيقة التاريخية. مهم هنا أن ينظر المراقبون فى العالم، بمن فى ذلك المراقبون الإسرائيليون، إلى هذا النموذج الحضارى المصرى رفيع المستوى.

ألا يستحق هذا النموذج لسلوك الحكومة والمجتمع فى مصر من جانب المشتغلين بالعلوم السياسية أن يطلقوا عليه مصطلحا يصنف الدولة ويدل عليها وعلى حالتها ودرجة تحضرها ومدى استعدادها للاعتراف بحقوق الآخرين. إننا نسمع مثلا مصطلح الدولة الفاشلة، الذى يدل على الدولة العاجزة عن القيام بوظائفها، فلماذا لا نسمى النموذج المصرى مثلا نموذج الدولة المحترمة respectaple، أى التى تستحق الاحترام لسلوكها الرفيع مع جيرانها، ولكونها ملتزمة باحترام قواعد القانون الدولى. طبعا سيستتبع هذا تصنيفا عكسيا للدولة التى لا تحترم هذا القانون، والتى تتحكم فى تصرفاتها تجاه حقوق جيرانها أطماع مسبقة وعمليات تزييف للتاريخ لتبرير هذه الأطماع. هل نسميها الدولة غير المحترمة أم نسميها الدولة المحتلة؟!. سأترك حسم التسميات لأهل الاختصاص، وسأقدم هنا نموذج الدولة المحتلة أو غير المحترمة.

لقد قام رئيس الحكومة فى دولة إسرائيل بنيامين نتنياهو بارتكاب انتهاك صارخ للقانون الدولى ولقرارات الأمم المتحدة يوم الأحد الموافق ١٧ إبريل ٢٠١٦، رغم أن دولته لم تحظ أصلا بهذه الصفة إلا بفضل منظمة الأمم المتحدة عام ١٩٤٨ لتكون إحدى أحدث دول العالم، رغم قيامها على أشلاء الشعب العربى الفلسطينى. قام نتنياهو، كما هو معروف، بترؤس اجتماع لحكومته فى هضبة الجولان السورية، التى تتفق وتجمع دول العالم - عبر منظمة الأمم المتحدة - على اعتبارها أرضا سورية محتلة، طبقا للقوانين الدولية.

لم يكتف رئيس الحكومة الإسرائيلية بالاجتماع غير المشروع، بل أطلق تصريحات يزيف فيها التاريخ القديم ليبرر لنفسه الاستيلاء على أراضى الغير بطريق القوة المسلحة على عكس ميثاق الأمم المتحدة وفى انتهاك صريح لقرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ الصادر فى نوفمبر ١٩٦٧ عقب سقوط الجولان وغيرها من الأراضى العربية تحت الاحتلال الإسرائيلى.

إن هذا القرار ينص على عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير عن طريق القوة. تحدث نتنياهو عن نواياه وأهدافه بشأن الجولان، فقال إن الهضبة ستبقى جزءا من دولة إسرائيل إلى الأبد، ثم خاطب المجتمع الدولى قائلا إن انسحاب إسرائيل من الجولان ليس مطروحا على الإطلاق، لا فى الحاضر ولا فى المستقبل، ثم قال - وهو رئيس دولة تقوم باحتلال أراضى الغير - عبارة يجب التوقف عندها لفهم مصدرها. نصها هو: (حان الوقت بعد خمسين عاما لكى يعترف العالم بأن هضبة الجولان ستبقى الى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية)، ثم استطرد مخاطبا وزراءه: (لقد قررت عقد هذا الاجتماع الخاص للحكومة، لإرسال رسالة للعالم مفادها أن الهضبة ستبقى فى يد إسرائيل للأبد).

إنها عبارة من وجهة نظرى كباحث فى الشؤون الإسرائيلية تحمل طابع الحوتسباه الإسرائيلية، أى تقاليد الوقاحة والفظاظة التى يرى علماء الاجتماع الإسرائيليون أنها نشأت على يد الحركة الصهيونية وروادها ومفكريها. إن هذا أمر صحيح، ذلك أن رواد الصهيونية كانوا مهمومين بفكرة إحداث تحويلات فى الشخصية اليهودية التى عاشت فى الجيتو، أى الحى اليهودى فى أوروبا وصياغتها فى صورة جديد. كانت شخصية يهودى الجيتو شخصية منسحقة تحت ضغوط الاضطهاد الأوروبى، التى أخذت أشكالا متنوعة، منها الإذلال والتحقير بوضع علامات قاسية لتمييز اليهودى إذا خرج من الجيتو إلى الأحياء المسيحية، مثل إلزامه بارتداء طوق خشبى ثقيل يغلق بمزاليج حديدية، وهو ما كان يجبر هذا اليهودى المسكين على الانحناء.

ومنها أيضا قصر تشغيله على الأعمال المتدنية فقط. ومن أبشع أشكال هذا الاضطهاد المسيحى القيام بمذابح يقتل فيها المسيحيون بوحشية المدنيين اليهود البؤساء دون أن يجسر هؤلاء على المقاومة. كان مطلوبا من المفكرين الصهاينة أن يشجعوا الشباب اليهودى، الهارب من التعذيب المسيحى إلى فلسطين، على التحول إلى شخصيه مناقضة لتلك، تتميز بالجسارة والتحدى والقسوة والسبق إلى قتل العرب، باعتبارهم كائنات ضارة، لا ضرورة لها تحت الأرض المقدسة وتعطل عمليه اتحاد الشعب المقدس بالأرض. من هنا تولدت تقاليد الحوتسباه الإسرائيلية التى تجسدها عبارة نتنياهو، الذى لا يكتفى بنهب أرض الغير، بل يتجاوز هذا إلى مطالبة العالم بإضفاء الشرعية على هذا النهب. لقد لجأ رئيس حكومة إسرائيل إلى تكرار منطق السبق الزمنى لامتلاك بنى إسرائيل، أى يعقوب، لفلسطين القديمة، بما فى ذلك الجولان، وهو المنطق المعهود لدى الرواد الصهاينة فى مطلع القرن العشرين.

لقد استعان فى هذا بالعهد القديم المشهور فى اللغة العربية باسم التوراة، التى هى فى الحقيقة الجزء الأول منه فقط، فقال ليضفى مشروعية دينية وتاريخية على أطماعه: لقد كان الجولان جزءا لا يتجزأ من أرض إسرائيل فى العهد القديم. إن استخدام العهد القديم فى الفكر الصهيونى، ومن جانب الساسة الإسرائيليين لترتيب حقوق تاريخية فى ما يسمونه أرض إسرائيل هو استخدام يتغافل عمدا عن الحقائق التاريخية التى تؤيدها آثار الشرق القديم، والتى تقررها أيضا آيات العهد القديم، وهو الكتاب المقدس لليهود. إننى أسوقها هنا فى إيجاز على الوجه التالى: أولا إن سبق الملكية التاريخية لهذه الأرض لم يكن لبنى إسرائيل، أى بنى يعقوب حفيد سيدنا إبراهيم من ابنه إسحاق، بل كان لبنى كنعان جد القبائل الكنعانية التى هاجرت من الجزيرة العربية، وكانت أول من استوطن هذه الأرض حوالى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد.

وبالتالى فإن حق الملكية التاريخية المبنى على مبدأ السبق التاريخى هو للعرب الفلسطينيين أحفاد الكنعانيين وليس لبنى إسرائيل. ثانيا إن العهد القديم الذى يستشهد به نتنياهو كان يسمى هذه الأرض باسم أصحابها الأصليين، فيسميها أرض كنعان، أثناء رواية قصة هجرة سيدنا إبراهيم إليها، أى قبل ولادة يعقوب أو إسرائيل، بل قبل ولادة عمه إسماعيل وأبيه إسحاق بعشرات السنين.

إن هذا الاسم - أرض كنعان - يرد مرارا فى سفر التكوين. ثالثا: إن الوعد الإلهى الذى أعطاه الله لإبراهيم بامتلاك أرض كنعان كان بنص العهد القديم له ولنسله من بعده، وكما يعرف رئيس وزراء إسرائيل، فإن نسل إبراهيم فى العهد القديم يعنى نسل ابنه الأكبر إسماعيل وابنه الأصغر إسحاق والد يعقوب معا.

أعتقد أن السيد نتنياهو يستحق منا أن نوضح له هذه الأمور وغيرها مما يناقض تصوراته تفصيلا، مع الإشارة إلى آيات العهد القديم الدالة عليها.

إن هدفى هنا هو مساعدة نتنياهو على إدراك الفجوة الواسعة التى تفصل بينه وبين نموذج الدولة المحترمة، الذى رأى مصر ترسيه كما بيّنا.

Info@bahrawy.com