«المشورة» نواة المجالس التشريعية المصرية

كتب: ماهر حسن الخميس 04-11-2010 13:33

ظلت الحكومة المصرية فى عهد محمد على باشا حكومة مطلقة تكرس لحكم الفرد، غير أن الفرق بينها وبين ما كانت عليه فى عهد المماليك، أن محمد على وضع نظاما لإدارتها، فحل هذا النظام محل الفوضى والارتباك، كما أن محمد على كان يميل إلى مشاورة مستشاريه، ومن هنا جاءت فكرة المجالس أو الدواوين التى أسسها، وكان يرجع لها فى مختلف شؤون الدولة، ومن هذه المجالس «الديوان الأعلى» فى القلعة وكان يناقش شؤون الحكومة قبل تنفيذها، وكان رئيس هذا الديوان يلقب «بكتخدا» وهو بمثابة وكيل الباشا، وكان يشبه رئيس الوزراء ووزير الداخلية معا، وظل يعرف هذا الديوان على مدى السنين بالديوان الخديوى، وفى وقت لاحق «ديوان المعاونة» وبالتدريج جعل لكل فرع من فروع الحكومة مجلسا أو ديوانا فكانت هناك دواوين الجهادية والبحرية والتجارة والمدارس والأبنية والأشغال وجميعها أشبه بالوزارات الآن، ونظراً للتطور المستمر فى شؤون الحكومة لاحقا، أنشأ محمد على سنة 1834 مجلسا سماه «المجلس العالى» وهو مؤلف من نظار الدواوين ورؤساء المصالح واثنين من العلماء يختارهما شيخ الأزهر واثنين من التجار يختارهما كبير التجار واثنين من ذوى المعرفة بالحسابات واثنين من الأعيان من كل مديرية ينتخبهما الأهالى، وقام بتعيين «عبدى شكرى باشا» لرئاسة هذا المجلس وهو أحد خريجى البعثة العلمية الأولى، وكان قد تلقى علمى الإدارة والحقوق فى فرنسا، وكانت عضوية أعضاء المجلس النائبين عن التجار والعلماء والمديريات سنة واحدة، وكان ذلك بمثابة الخطوة الأولى لنظام حكومى لم تعرف البلاد مثله من قبل، ولأن المجالس المتقدمة كانت مجالس حكومية تنفيذية تتألف من كبار الموظفين ولم تكن هيئات شعبية تمثل الشعب أو طبقات الأمة فإنه يمكن اعتبارها نواة لنظام نيابى أو شبه نيابى، لكن هيئة واحدة شكلها محمد على سنة 1829 م، يمكن اعتبارها نواة لنظام شورى وهى مجلس المشورة، الذى كان يتألف من كبار موظفى الحكومة والعلماء والأعيان، وهو بذلك أفضل من الديوان العمومى الذى أنشأه نابليون، وفى الثانى من سبتمبر عام 1829، نشرت جريدة «الوقائع» نبأ انعقاد مجلس المشورة لأول مرة فى قصر إبراهيم باشا القصر العالى فى جاردن سيتى وبرئاسته، وذكرت «الوقائع» كل أسماء أعضاء مجلس المشورة، وكان عدد أعضاء المجلس 156 عضوا منهم 33 من كبار الموظفين والعلماء و24 من مأمورى الأقاليم و99 من كبار أعيان القطر المصرى.


وعلى الرغم من أن الأعضاء تم تعيينهم وليسوا منتخبين، يمكن اعتبار مجلس المشورة نواة للمجالس النيابية فى مصر إلا إذا اعتبرنا الديوان الكبير الذى أنشأه نابليون فى مصر هذه النواة، وكان أعضاء المجلس من مأمورى الأقاليم ومشايخ وأعيان الأقاليم ورؤساء المصالح الحكومية والعلماء، وقد جاء فى ديباجة لائحة مجلس المشورة تعريف له يقول مجلس المشورة هم الذوات المشهود لهم بالفكر الثاقب والرأى الصائب المعدودون أهلا لتدبير المصالح بالاعتدال والاستقامة الخالون من البغض والعداوة العارون عن لباس الغرض النفسانى الثابتون فى الجلوس بمحل واحد كعضو واحد».


واللافت النظر أن أول قرار اتخذه المجلس كان خاصا بالتعليم، ومن القرارات الأخرى التى اتخذها هذا المجلس ارتداء جميع الموظفين كساوى الجهادية، وأخذ ألف غلام من القاهرة لتشغيلهم بالأجرة فى فابريقات الحكومة، وكذلك أخذ الصالحين من المتسولين للعمل بهذه الفابريقات على أن ترتب لهم أرزاق يومية، ومن القرارات الطريفة قرار عقاب الموظفين ومشايخ البلاد «العمد» الذين تمتد يدهم إلى «البرطيل» أى الرشوة أو سلب أموال الأهالى، حيث يتم إلزامهم برد ما أخذوه ومجازاتهم بالعقوبة الشديدة، وعرض مشروع نفقات القناطر.


وفى سنة 1837، وضع محمد على باشا قانوناً أساسياً يعرف بقانون «السياستنامة» أحاط فيه بنظام الحكومة واختصاص كل مصلحة وحدد اختصاصاته فى سبعة دواوين، الديوان الخديوى وينظر فى شؤون الحكومة الداخلية وله سلطة قضائية وسلطة الضبط والربط فى القاهرة والنظر فى الشكايات وجرائم القتل والسرقة، وهو يرأس ويشرف على عدة مصالح منها الأبنية والمخبز الملكى وديوان المواشى وترسانة بولاق والمستشفيات والروزنامة «إدارة أموال المير»، والأوقاف والتمرخانة ومحاجر طرة والبوستة، ثم ديوان الإيرادات وديوان الجهادية وديوان البحر وديوان المدارس وديوان الفابريقات وديوان الأمور الإفرنجية «أى العلاقات الخارجية وشؤون الاستيراد والتصدير».


وفى يناير 1847 شكل محمد على باشا ثلاثة مجالس جديدة هى المجلس الخصوصى للنظر فى شؤون الحكومة الكبرى وسن اللوائح والقوانين وإصدار التعليمات للمصالح الحكومية وكان يرأسه إبراهيم باشا والمجلس العمومى أو الجمعية العمومية وديوان المالية وهو مؤلف من مدير المالية ووكيل الديوان الخديوى ومدير المدارس ومدير الحسابات ومفتش الفابريقات، ويرسل هذا المجلس قراراته إلى المجلس الخصوصى، فإذا وافق عليها أحالها إلى الباشا ليأمر بتنفيذها، ثم كان هناك مجلس عمومى آخر فى الإسكندرية، وكان محمد على فى سبيل أن يكفل المزيد من القوة لمجلس المشورة وأن يكفل له ولأعضائه الحق حتى فى مراجعة الحاكم وجمع مجلس المشورة فى أحد أيام عام 1847 فى اجتماع نشرته الوقائع المصرية على شكل نبأ مطول، جاء فيه أن محمد على باشا دعا أعضاء المجلس إلى تناول العشاء على مائدته ثم جمعهم وألقى فيهم حديثا طويلا تحدث فيه عن بلوغه الثمانين حيث لم تعد له أطماع إلا مصلحة الوطن وإسعاد المواطنين، ومما قاله لكبار الموظفين والمديرين فى هذه الكلمة المطولة «إذا كنت آمر أحدكم شفاها أو تحريرا بقولى له أجر المادة الفلانية بهذه الصورة، وحصل منه اعتراض علىّ وذكرنى وأفادنى شفاها أو تحريرا بأن المادة المذكورة مضرة فهذا يكون منه عين ممنونيتى الزائدة، وأنا مرخص لكم فى ذلك الرخصة التامة المرة بعد المرة، ثم طلب منهم ألا يخافوا فى سبيل تحرى المصلحة العامة من أحد حتى ولو كان أولاده» وختم الباشا كلمته الطويلة بتحذير كل من لا يسلك هذا السبيل وقال: «ولتعلموا أنكم إذا لم تحولوا عن خصالكم القديمة من الآن وصاعدا ولم ترغبوا عن طرق المداراة والمماشاة ولم تقولوا الحق فى كل شىء، ولم تجتهدوا فى طريق الاستواء ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة فلابد لى من أن أغتاظ منكم جميعا، ولما كنت موقنا بتقدم هذا الوطن العزيز على أى صورة كانت، وملتزما فريضته علىّ، صرت مجبورا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطرارا مع حرقة كبدى وسيل الدموع من عينى».