من يملك الربيع؟.. سؤال ساذج بالطبع، فالربيع ملكٌ للجميع، إلا أن تلك الإجابة البدهية فى مثل هذه الأيام من عام 1970، مع تغيير ربما يصل لبضعة أسابيع، كانت تنتظر رأى أعلى سلطة فى البلد، أقصد الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا، فلم يكن أحد يملك الإجابة ويستطيع تحمل تبعات القرار.
كان فريد الأطرش قد ابتعد بعد 67 عدة سنوات متجها إلى بيروت، وطال الغياب على غير العادة ثلاث سنوات، ثم استبد به الحنين لبلده الأول مصر وليس بلده الثانى، نعم فى شهادة الميلاد هو من مواليد جبل الدروز فى سوريا، وله فى ضمير كل لبنانى مساحة من الحب تحيله إلى مواطن لبنانى، فهو سورى مصرى لبنانى بنفس الدرجة، وبالفعل هو الفنان العربى الوحيد الذى يحمل أربعة جوازات سفر لو أضفنا جواز السفر السودانى الذى منحه إياه الرئيس جعفر النميرى.
قرر فريد أن يعود إلى مصر لتقديم حفل فى الربيع، وعلى الفور طلب من صديقه الشاعر الغنائى الكبير مأمون الشناوى أن يكتب له أغنية تليق بالعودة، ليحضن بها جمهوره بعد غياب، فكتب له مأمون «سنة وسنتين، سنة وسنتين وأنت يا قلبى تقول أنا فين/ وتهت ودبت فى أشواقك وشفت النيل وعرفت أنا فين/ يا مصر يا عمرى يا نور العين».
كان هذا هو الفصل الأول الهادئ- الكيوت- فى تلك الحكاية، لنأتِ إلى أصعب الفصول وهو الثانى، إنه الصراع التقليدى بين قطبى الغناء بعد أن وصل للذروة فى عدد من المواقف قبل حفل الربيع، عبد الحليم يتهرب من فريد ولا يردد له أيا من ألحانه، وبعد أن يتفقا ويجرى عبدالحليم البروفات المبدئية على عود فريد، ويسارع فريد بإبلاغ الصحف باقتراب اللقاء، لكن عبدالحليم كعادته، فص ملح وداب، صحيح أن فريد يردها له مباشرة، مثلا أعد له أغنية «يا واحشنى رد عليه إزيك سلامات» تراجع عنها حليم فى اللحظات الأخيرة، فمنحها لمنافسه فى تلك السنوات محرم فؤاد، بعدها يقدم له «يا ويلى من حبه يا ويلى»، يتراجع حليم فيغنيها فريد بصوته، وهكذا تزداد حدة الصراع، خاصة أن حزبى فريد وعبدالحليم يؤججان النيران التى وصلت للذروة ولا تحتمل مزيدا من البنزين، إلا أن حفل الربيع فى ذلك العام كان هو الحلبة الرئيسية، مَن الذى يعرض له الحفل فى التليفزيون الرسمى، والذى كان يُطلق عليه فى تلك السنوات من زمن ناصر «التليفزيون العربى»، علينا أن نعود فلاش باك 46 عاما، لا توجد غير قناتين فقط 5 و9، والدولة ليست لديها إمكانيات هندسية سوى أن تنقل حفلا واحدا، وزير الإعلام فى تلك السنوات د. عبدالقادر حاتم أُسقط فى يده، كان عبدالحليم قبلها بنحو خمس سنوات متعودا على إقامة حفل الربيع وتقديم أغنية جديدة لجمهوره، ولكن فريد عاد لمصر، والجمهور يشعر أن الربيع هو فريد، وفريد هو الربيع، وجاء القرار السياسى الذى يزيح عن كاهل وزير الإعلام الأسبق كل المعاناة، وهو أن التليفزيون ينقل على الهواء مباشرة حفل فريد، ويتم تسجيل حفل عبدالحليم ليعرض فى اليوم الثانى، والإذاعة العكس تُقدم حليم وتُسجل فريد، بالطبع كان ولا يزال التليفزيون يكسب، تخيلوا كيف كان القرار السياسى به- بالطبع- مذاق قومى تفرضه الظروف، إلا أن هذا ليس هو السبب الوحيد، ولكن بناء عبدالناصر الفكرى، وأيضا الفنى، كان يميل أكثر لهذا القرار، عبدالناصر ومن بعده السادات من عشاق صوت فريد، رغم كل ما قدمه عبدالحليم من أغنيات مواكبة للثورة، إلا أن عبدالناصر منح فريد وسام الجمهورية من الطبقة الأولى ولم يمنحه لعبدالحليم، بينما السادات فى قعداته الخاصة لا يغنى سوى لفريد.
وغنّى عبدالحليم فى تلك الحفلة من كلمات محمد حمزة، وتلحين بليغ «زى الهوى»، بينما أعاد فريد ترديد «الربيع»، لتؤكد أنها غير قابلة للمنافسة.
أصبح لدينا للربيع فى ذلك العام حفلان كبيران، وكان يقف وراء عبدالحليم الموسيقار بليغ حمدى ليمنح كل مطرب يشارك فى الحفل أغنية من تلحينه، بينما فريد بالطبع يقدم ألحانه، وهكذا مثلا يغنى لأول وآخر مرة فهد بلان من ألحان فريد «ما أقدرش على كده ومقام السيدة» بكلمات صلاح جاهين، ويغنى محمد رشدى لفريد لأول وآخر مرة أيضا «عشرية» تأليف حسن أبوعتمان، وبسبب هذه الأغنية حرمه بليغ حمدى من أغنية «ردوا السلام» تأليف سيد مرسى لتصبح هى نقطة انطلاق لعفاف راضى فى حفل كبير وتحت المظلة الجماهيرية لعبدالحليم.
ويمر الزمن وينسى الناس كل تلك الحكايات لتبقى رائعة «الربيع » هى عنوان أجمل فصول السنة، رغم أنها لم تكن فى البداية هى أغنية فريد، حيث كانت أم كلثوم هى الصوت الأول الذى تمنى مأمون الشناوى أن يستمتع بكلماته على حنجرتها، ولكنها تطلب تغييرا طفيفا، بينما الشاعر مأمون الشناوى يرفض، وتصر أم كلثوم على التعديل، ويقول لها إنه مثل الفنان التشكيلى انتهى من لوحة ولا يمكن أن يضيف لونا أو ظلا، بينما أم كلثوم تعتبر أن الأغنية عمل جماعى، ومن حقها أن تتدخل، فيذهب بها إلى صديقه فريد الأطرش، الذى يبعد منزله بأقل من 100 متر عن فيلا أم كلثوم، فيصبح الربيع لا يشعر به الناس إلا بعد أن يشدو فريد برائعة مأمون، ليقدمها فى فيلم «عفريتة هانم» إخراج هنرى بركات عام 1949.
وتتعدد أغنيات الربيع للجميع: أم كلثوم وعبدالوهاب وفوزى وغيرهم يقدمون أغنيات، ولكن الناس لا ترضى سوى بربيع فريد حتى تأتى «الدنيا ربيع» فى «أميرة حبى أنا» لحسن الإمام عام 1974 لتصبح عنوانا مغايرا للربيع، به المرح والبهجة، بينما ربيع فريد الأطرش به فيض من الشجن النبيل.
الفيلسوف الفرنسى الحائز على نوبل هنرى بيرجسون صاحب كتاب «الضحك»، الذى صار حجر الزاوية فى الكوميديا، له عبارة شهيرة تتسع تخومها لتتجاوز خشبة المسرح وكادر السينما إلى الدنيا كلها «الحياة مأساة تراجيدية لمن يشعرون، وملهاة كوميدية لمن يفكرون».
المهم ليس الحدث أو الموقف ولكن زاوية الرؤية التى نُطل من خلالها عليه، هل بالقلب أم بالعقل؟، وهكذا تستطيع أن تلمح كل شىء فى حياتنا وهو يخضع لنظرية بيرجسون.. حتى على المستوى السياسى، أطلقنا على الثورات العربية بقلوبنا صفة «ربيع»، رغم أنها انطلقت فى عز الشتاء، وكلنا ندرك الآن أن قسطا وافرا من الناس - ولست بالمناسبة منهم - يرونها بعقولهم خريفا.
لدينا فى الدراما «البارودى»، أى أن هناك رؤية ساخرة لعمل فنى مغرق فى الدموية، مثلا أفلام الكاوبوى الأمريكية المليئة بالمسدسات والبنادق والدماء، ثم شاهدنا أفلاما تُقدم الوجه الآخر كاوبوى إيطاليا وإسبانيا بمذاق كوميدى أطلقوا عليها على سبيل السخرية «كاوبوى إسباجيتي».
وأظن أن هذا تكرر فى «الدنيا ربيع» وكأنها وجه آخر لـ «ربيع» فريد، فى ربيع سعاد نتأكد أنها لا تريد أن تثير أى لحظات من الألم ولكنها تتجاوز عن كل شىء من الممكن أن يعكر صفو اللحظة «قفلى على كل المواضيع»!
تلك الحالة من الامتزاج بهذا التوافق اللاشعورى بين الموسيقى والكلمة وبهجة صوت سعاد حسنى الذى عبّر عن حالة التصالح مع الحياة بهذا الرنين الخفى «الشجر الناشف بقى ورور والطير بقى لعبى ومتهور»، بينما فريد لا يزال صوته يحلق بنا فى عليين وهو يقول «وغاب عنى لا طمنى ولا قال إمتى راح أشوفه / يمكن ح يرحمنى ويبعت للربيع طيفه».
الفن والمرح والحب والزهور.. كلها من مفردات الربيع، ولكن جمال عبدالناصر منحه أيضا مذاقا سياسيا!!