الاستقبال لـ«بورقيبة».. والهتاف لعبدالناصر!

سليمان الحكيم السبت 30-04-2016 21:50

قام عبدالناصر فى أواسط الخمسينيات بزيارة إلى السعودية، قاصدا أداء فريضة الحج أثناء فترة حكم الملك سعود بن عبدالعزيز، الذى استقبل ضيفه فى المطار. وفى الطريق إلى مقر إقامته بأحد قصور الضيافة، لاحظ الملك «سعود» كثرة الذين احتشدوا على جانبى الطريق، حاملين صورا لعبدالناصر وأعلاما مصرية، فشعر الملك «سعود» بالحرج، لاستبعاده من المشهد حين لم ير مواطنا سعوديا واحدا يرفع صورته أو عَلَم بلاده، فمال على عبدالناصر ليقول له إنه يبدو أن الإخوة المصريين هنا قد أصبحوا أكثر من السعوديين!

وما حدث فى السعودية حدث مثله فى كل الأقطار العربية التى قام عبدالناصر بزيارتها. وقد حكى لى السفير الليبى الصديق عبدالقادر غوقة قصة طريفة حدثت فى أواسط الستينيات حين جاء الرئيس التونسى بورقيبة لزيارة مصر، ثم غادرها إلى بيروت، وهناك أعلن استعداده للاعتراف بإسرائيل كأمر واقع، داعيا غيره من الزعماء العرب إلى أن يحذوا حذوه بقبول إسرائيل كدولة من دول المنطقة. وهو ما أثار ضجة هائلة فى ذلك الوقت فى كل الأوساط الشعبية العربية التى رفضت دعوته، فأنهى بورقيبة زيارته للبنان سريعا، وغادرها إلى تونس، ماراً بليبيا التى استقبله فيها بالمطار الملك إدريس السنوسى. لاحظ بورقيبة أن مُستقبِليه من المواطنين الليبيين قد رفعوا صور عبدالناصر، هاتفين باسمه، فمال ناحية الملك السنوسى، معلناً عدم رضاه عن المشهد ليقول: «الاستقبال لبورقيبة والهتاف لعبدالناصر!».

هذه هى مصر التى كانت. وتلك كانت مكانتها. شامخة أبية. ليسلمها العرب قاطبة لواء القيادة طائعين، رغم أنف ملوكهم وأمرائهم. لم يكن عبدالناصر قائدا لمصر فقط، بل كان زعيما لكل العرب شعوبا وقبائل. لم تكن مصر حينها مجرد دولة شأنها شأن أى بلد عربى آخر، بل كانت هى الأم والشقيقة الكبرى. انعقد لها لواء الزعامة والقيادة. أما اليوم فلم تعد هى مصر التى عرفناها وعرفها معنا الشعب العربى بإجماعه. بعد أن أصبحت تابعة غير متبوعة. ومنقادة لا قائدة. ليختفى العَلَم المصرى فى مصر نفسها، حتى فى أجَلّ مناسباتها الوطنية التى حققناها بالعرق والدم. بعد أن كان هو العَلَم الذى يلتف حوله كل العرب من مختلف أقطارهم. يرفعونه فخرا. ويمجدونه إجلالا، فكان بألوانه الثلاثة وبنفس ترتيبها الأفقى هو عَلَم كل ثورة تقوم وكل نظام جديد ينشأ. فى ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن، حتى كاد يصبح هو عَلَم السعودية نفسها. هكذا هانت مصر علينا، فهانت فى نظر الجميع. تتداعى عليها الشراذم من كل صوب وحدب، لأننا مارسنا عليها التصغير والتقزيم، فباتت ضئيلة لتناسب حجم شعورنا بالضآلة والدونية والنقص، فأصبحت «دون» الشموخ والعظمة التى تستحقها بتاريخها الموغل فى عمق الزمن. لتتسول رضا الآخرين، وهو ما كانت تمنحه لمَن ترضى عنه حين يأتيها مرغماً أو طائعاً، قانعا أو صاغرا!

كم أنا حزين لضياع قيمة مصرنا وتضاؤل قامتها حين أستمع لكوكب الشرق وهى تردد: «عيشوا كراما تحت ظل العَلَم».. أى عَلَم يا ست، وأى كرامة، ولم يعد العَلَم عَلَمنا ولا مصر هى مصرنا؟!!