سجاد المحلة الكبرى: عمالة غائبة.. وديون متراكمة

كتب: ريهام العراقي الجمعة 29-04-2016 20:14

داخل أحد العنابر ترى جدرانا أسمنتية، طرقات طويلة، أسقفا مرتفعة بلا إضاءة تتدلى منها خيوط العنكبوت، ماكينات متهالكة يعمل عليها عدد محدود من العمال، وأخرى محطمة غطتها الأتربة افترشت جوانب المكان بشكل عشوائى، حجرات بلا تهوية لم تعد صاخبة بضجيج عمالها كما كانت من قبل، بعدما هجرها العشرات منهم بحثا عن عمل بديل، لينطق: «هنا مصنع السجاد بالمحلة الكبرى».

خلف قوائم خشبية، وأعلى أريكة متهالكة، جلست أم محمود السيدة الثلاثينية، تتنقل أصابعها بخفة بين الخيوط المتلاصقة، تخطف نظرة سريعة ما بين الحين والآخر إلى صورة ورقية معقدة تتصدر النسيج اليدوى، يتساقط العرق من جبينها وتمسحه بطرف جلبابها الريفى، تقبض يدها اليمنى آلة حادة تقطع بها الخيوط الزائدة، وتنتهى من نسج خيوط سجادة يدوية بديعة الألوان، تعكس صورة التراث الشعبى الأصيل.

سبعة وعشرون عاما قضتها أم محمود فى صناعة السجاد اليدوى، تتحصل على 850 جنيها شهريا، تخرج من قريتها فى السادسة والنصف صباحا حتى تلحق بعملها فى المصنع، وتشتغل على النول لمدة ثمانى ساعات، قد تمتنع عن دخول دورة المياه حتى لا تتوقف عن عملها، وقالت: «السجاد اليدوى من أصعب الحرف لكنه من أمتعها وأغلاها أيضا، خاصة السجاد الحرير الذى يصل فيه سعر المتر لـ6 آلاف جنيه، وقد يأخذ من وقتى 7 أشهر كاملة، بس المصنع اتغير حاله وأصبح معدوما، ومطلوب منى إنتاج كبير فى اليوم الواحد، وخوفى من عدم إنجاز الإنتاج المطلوب منى جعلنى أتوقف عن الصلاة فى العمل،ودخول دورة المياه مرة واحدة، ولنا 5 شهور متأخرة راحوا من قوتنا وقوت عيالنا، ومفيش حد عرف الأيام دى مرت علينا إزاى، كنت بضطر فيها للخدمة فى البيوت، لتوفير اللقمة لعيالى، ومرتبى بيتصرف على الأقساط والديون، غير أجرة المواصلات بتوصل لخمسة جنيه».

مع اقتراب موسم الصيف تزداد معاناة العاملين فى مصنع السجاد اليدوى، فلا يوجد فتحات للتهوية داخل المصنع أو مروحة تساعد على تلطيف حرارة الجو، رغم ذلك تدعو أم محمود لأن تستمر فى عملها قائلة: «إحنا بنشتغل فى جو كتمة وحر ومفيش مروحة تهون علينا ارتفاع حرارة الجو، أو إضاءة تساعدنا على إنجاز عملنا، بس إحنا راضيين وربنا يديمها نعمة علينا، لأن أملنا فى الدنيا نشتغل علشان نصرف على ولادنا، ونقبض يوم واحد كل شهر بدل ما القبض بيتأخر ليوم 10».

رغم تحذير الطبيب لها من خطورة استمرارها فى نسج السجاد، إلا أن «خضرا» السيدة الثلاثينة، لا تجد أمامها وسيلة أخرى للإنفاق على أطفالها «أكل العيش مُر».. بهذه العبارة القصيرة فسرت خضرا سبب استمرارها فى العمل رغم إصابتها بتصلب فى الشرايين، وقالت: «لا يعلم بصعوبة نسج السجاد اليدوى سوى من اشتغل بهذه الحرفة، فهى مثل العقدة التى يصعب فكها، وأنا أشتغل هذه المهنة منذ 20 سنة، وإيران هى الدولة الوحيدة التى تنافسنا فى عملنا، ومنتجاتنا أفضل منها بكثير، إلا أن دولتها تستطيع تسويق منتجاتها فى دول العالم، وأجريت عملية تسليك شرايين منذ عامين بسبب عملى، ونصحنى الطبيب بالابتعاد عن هذه المهنة، إلا أنه لا يوجد أمامى غيرها، وبالفعل أصبت بتصلب شرايين ولابد من إجراء عملية جراحية عاجلة لى».

ربما قد تعتقد أن العاملات فى صناعة السجاد اليدوى يتطلب الأمر منهن خفة فى الحركة فقط، إلا أنه فى حقيقة الأمر فإنه لإتمام عملهن لابد أن ينعزل تفكيرهن عن العالم الخارجى وقت عملهن لأن الخطأ ممنوع، ولو كان بسيطا، لأنهن وحدهن من يدفعن ثمن ذلك، أوضحت خضرا ذلك قائلة: «لحظة جلوسى أمام النول أفصل بين حياتى الشخصية والعمل، لأن عدم التركيز والسرحان وقت العمل ممنوع، فهناك زبائن يأمرون بتغيير ألوان السجاد الموجودة فى اللوحة الورقية أثناء شغلى فى السجادة، لذلك يجب أن أكون متيقظة بشكل كبير، وشغلتى كلها متوقفة على أعصابى ونظرى وأصابعى، فالموس لو نزل على إيدى واتجرحت خلاص عطلت، ولو غلطت فى رسمة الصورة أتحول للتحقيق ويتم خصم جزء من راتبى».

قد تختلف روايات العاملات فى مصنع السجاد بالمحلة الكبرى فى تحمل الأعباء، إلا أن جميعها تتشابه فى صعوبتها وملامحها، فـ«خضرا» لن تنسى يوم بيع حلق ابنتها الكبرى لشراء طعام لأبنائها، وعاليا التى اقترضت 20 جنيها من جارتها لشراء العلاج لابنها الصغير، وشريفة التى كانت تنحنى لتحمل الطوب على ظهرها وسط رجال قريتها الصغيرة.

لم تمنع أُمية «سامية» وعملها فى صناعة السجاد اليدوى منذ نعومة أظافرها، من السعى وراء تحقيق حلمها فى تعليم جميع أبنائها، لعل الزمن يرسم لهم مستقبل أفضل منها، لذلك فهى ترفض إلحاقهم بعملها الشاق وترفض عملهم فى سن صغيرة، حتى وإن كان ذلك يحملها فوق طاقتها.

قالت سامية: «لو رجع الزمان 15 سنة كان ممكن أعلم ولادى الصنعة لأن غزل السجاد كان له قيمة وسوق، جزء من التراث المصرى الشعبى وعنوان لتاريخ الأمم يعكس مدى تحضرها ورقيها، فالسجاد اليدوى هو بمثابة تحفة فنية راقية كلما امتد بها العمر ازدادت قيمتها المادية والفنية، وكان الصنايعى له دخله اللى يقدر يعيشه مستريح، لكن دلوقتى الوضع اتغير المهنة بتختفى يوم ورا يوم، والوضع الاقتصادى للناس فى النازل، مين هيقدر يشترى سجادة ممكن توصل لأربعين ألف جنيه، عشان كده أنا رافضة ولادى يشتغلوا معايا، ويشربوا المُر على الفاضى».

تأخر الرواتب الشهرية للعاملين فى مصنع السجاد بالمحلة الكبرى، أجبر العشرات منهم على تقديم طلبات لإنهاء عملهم فى الشركة، لتحصيل مكافأة نهاية الخدمة تساعدهم على تدبير نفقاتهم، قال عبدالله سمير أحد العاملين: «رواتبنا متأخرة والعمال لديها مديونيات، ولجأ بعضهم إلى حيلة بالخروج للمعاش المبكر، علشان يقبضوا 15 ألف جنيه من الشركة، وتانى يوم يحضروا للشركة للعمل باليومية، لأن الحصول على راتب شهرى بانتظام أمر مش مضمون».

وتابع سمير: «شغال بقالى 32 سنة فى صناعة السجاد، والمصنع كان يضم جميع الكوادر والخبرات والفنيين إلا أنهم رحلوا، ولم تعد هناك أيد عاملة مدربة، ونضطر إلى اللجوء للفنيين ممن تخطوا سن المعاش مقابل الحصول على أجور رمزية».

تستند اعتدال زين العابدين السيدة الخمسينية على عكازها الخشبى، رافضة تقديم تقرير طبى إلى التأمين الصحى، خوفا من «تشريكها» وخصم جزء من راتبها الشهرى، وقالت: «بشتغل فى المصنع منذ 44 سنة، رجلى محتاجة تغيير ركبة وبعمل بذل مياه منها على فترات متقاربة، واتنقلت إلى قسم لف الصوف، مرتبى 1300 جنيه شهريا، والشغل مش مكفى مصاريف ولادى، وأنا لو قدمت تقرير طبى للمسؤولين هيشركونى، لأنى مصابة بعجز جزئى وهيتخصم جزء من راتبى، وأنا فى حاجة إلى الجنيه الواحد».

فى الوقت الذى يجلس فيه أقرانه داخل فصولهم، يستمعون إلى شرح معلمهم، ينحنى «على» ابن الرابعة عشرة، أمام النول الخشبى، لينسج خيوط السجادة الصوف، يُضمد جرح يده اليسرى بقطعة قماش، حتى لا يتوقف عن العمل ويفقد يوميته التى لا تتعدى الثمانية جنيهات.

يخرج «على» من قريته «شبرا بابل» يومياً، ينحشر جسده الضئيل داخل سيارة نصف نقل، تنقله إلى مدينة المحلة الكبرى، تسربه من التعليم فى سن مبكرة، أجبره على تعلم صناعة السجاد اليدوى، يتقاضى 213 جنيها شهريا، وقال «على»: «مليش نصيب أتعلم لكن حبيت أتعلم صناعة السجاد، علشان أقدر أتحصل على فلوس أساعد بيها أبويا فى تربية إخواتى، إيدى بتنجرح من الموس بس بربطها علشان أكمل شغل، صحيح أنا مكملتش تعليمى بس نفسى إخواتى يكملوا تعليمهم».

بسيونى النواوى، أحد مسؤولى قسم التشغيل والإنتاج بمصنع سجاد مصر، أشار إلى أن المصنع كان يعيش فى حالة ازدهار فى فترة التسعينيات وما قبلها وكان يصدر منتجاته لجميع أنحاء العالم، بفضل وجود قيادة واعية ترعى مصالح المصنع، التى نجحت فى فتح العديد من الأسواق الخارجية، وأصبحنا نحتل الصدارة فى مجال التصدير لروسيا واليابان وإنجلترا وألمانيا ونافسنا إيران على صناعة السجاد العجمى بأنواعه المختلفة الشيرازى والأصفهانى والتبريزى، إلا أن المصنع ينزف منذ 10 سنوات، ولجأنا إلى جميع المسؤولين لحل أزمة الصناعة، إلا أنهم أعطونا ظهورهم، بحجة أننا نتبع الاتحاد التعاونى للإنتاج، ولسنا تبع القطاع العام، رغم أنه وقت ازدهار المصنع عندما كان بيدخل عملة صعبة للدولة، كانوا يتباهون بالمصنع وأنه يتبع القطاع العام.

وانتقد النواوى الموقف السلبى لوزراء القوى العاملة والصناعة والاستثمار، مؤكدا أن زياراتهم لمدينة المحلة الكبرى فى احتفاليات عيد العمال مجرد «شو إعلامى» على حد قوله، وقال: «العاملون بالمصنع مش عارفين ينتجوا والتصدير واقف منذ سنوات، وزيارات المسؤولين للمصنع فى عيد العمال مجرد شو إعلامى، بغرض التصوير والدعاية فقط، وليس لحل مشاكلنا، والوعود التى سمعناها من المسؤولين فى المؤتمر الصناعى الذى عقد فى غزل المحلة منذ عدة أيام، جميعها كلام فى الهوا، كان يصل عدد العمال إلى 45 ألف عامل، لكن دلوقتى وصل عدد العمال إلى 15 ألف عامل فقط، الشركة تنزف منذ 10 سنوات، كان عندنا مخازن للسجاد وأمهر المهندسين والفنيين، إحنا بنناشد الرئيس السيسى لإنقاذ مصنع السجاد.

ويقارن النواوى بين حال المصنع فى الستينيات، وحاله الآن قائلا: «فى الستينيات كان يشتغل على الأنوال أمهر وأكفأ العمال، لكن النهارده مفيش عمالة تشتغل عليه، فالأنوال نقوم بفكها وتخزينها ثم نبيعها خردة بالكيلو جرام، إلى جانب عدم قدرتنا على مساعدة العمال فى القيام بعملهم، حيث إن مساحة المصنع واسعة وتتطلب إضاءة عالية خاصة فى صناعة سجاد الحرير، لكننا نشترى أعدادا محدودة لعدم وجود ميزانية ونضطر إلى وضعها فى الأماكن المتعثرة، زمان كنا بنشترى أعداد كبيرة من اللمبات لكن دلوقتى بنشترى باللمبة الواحدة».

ووضع النواوى عدة مقترحات للخروج من الأزمة، وإنقاذ المصنع والحفاظ على القلة المتبقية من العمالة الماهرة، وهى إسقاط ديون المصنع وضخ مبالغ مالية لشراء المواد الخام اللازمة للتصنيع، وفتح أسواق جديدة لتصريف منتج السجاد اليدوى محليا ودوليا، سواء عن طريق الصندوق الاجتماعى للتنمية أو المشاركة فى المعارض، إلى جانب تدريب صبية وفتيات على أعمال النسيج لخلق أيد ماهرة فى المستقبل.