لم يكن هناك مناص أن يذهب لمعاينة السيدة المتوفاه. حمل حقيبة الكشف وسار مع قريب الميتة.
■ ■ ■
كان غضا لم تختبره الدنيا حين سافر إلى تلك المدينة المرفهة القابعة فى أحضان الخليج، حاملا إرثا حميما من مصريته وثروة من الذكريات والأغانى الوطنية.
يذكر لوعته وهو فى مطار القاهرة. كل شىء كان يلهث من حوله. الطريق مزدحم بالسيارات وموعد الطائرة يقترب. لا أحد يعلم كم كلفه السفر من دموع التنائى ومن فراق الأحبة! كيف دبر مصاريف السفر! وجوم والديه وهما يتظاهران بالثبات ويشجعاه على السفر. ثم تلك الدمعة التى أفلتت من عين أبيه ونحيب أمه وهو يعانقها. لم يعرض أحدهما أن يصحباه إلى المطار، كان ذلك فوق احتمالهما.
يذكر الركض المحموم وحمل الحقائب واللهاث الذى يكثف بخار الماء فوق نظارته. يذكر ارتباكه أمام موظف الجوازات وكأنه ارتكب إثما.
■ ■ ■
تقاليد شهادة الوفاة فى تلك المدينة أن يذهب الطبيب إلى بيت المتوفاه ليقوم بفحصها ثم يعودا معا إلى المستشفى. دلف إلى جواره فى سيارته رباعية الدفع، التى لا يعرف بالطبع اسم موديلها.
■ ■ ■
جلس فى صالة الانتظار فى ارتقاب الصعود إلى الطائرة. انتهى الركض اللاهث الذى كان يشغله عن التأمل. وتصاعد اللحن الحزين بقوة. أمامه الآن وقت كافٍ كى يجتر الذكريات جميعا. طفولته. جلوسه الطويل تحت شجرة التوت فى قريته. الفقر الذى لم يكن يشعر به، لأنه يشملهم جميعا. تفوقه الدراسى الذى كان مبعث فخر أبيه وأمه. انتقاله إلى كلية الطب فى المدينة المجاورة. الصدمة الحضارية التى أصابته واكتشافه أن هناك أغنياء موجودون بالفعل فى هذا العالم. قصة الحب التى تعثرت لفوارق طبقية. عودته إلى قريته بعد تخرجه. انسداد كل الطرق إلى حياة كريمة فى وجهه.
ثم السفر.. السفر.
■ ■ ■
يتأمل البيوت الفارهة من خلال نافذة السيارة المصقولة. كل شىء هنا فاخر ولامع. صامت وهادئ. غريب ومنعزل. وكأنها لا تنتمى إلى الكوكب نفسه الذى تقع فيه قريته. فى القرية تراب كثير، وزحام كثير، وبيوت متلاصقة. فى القرية فقر كبير وحزن كبير وأفئدة متساندة. ما زال يذكر صدمته حين دخل أحد المتاجر العملاقة وشاهد صفوف البضائع الفاخرة المستوردة. والناس يكدسون ببساطة فى العربات الكبيرة. وتذكر البضائع البائسة فى متجر قريته والأيدى المترددة والأرزاق الضيقة. فكيف تجتمع كل هذه المتناقضات على نفس الكوكب؟
■ ■ ■
الفيلا هادئة صامتة وكأنه لا ميت فيها. فى قريته يصل النواح إلى القرية المجاورة. يصعد فى تهيب السلم الرخامى الفاخر. يدخل غرفة هادئة. يكشف الغطاء عن وجه الميتة التى تجاوزت التسعين. رائحة عطرية مقبضة تفوح فى المكان. الميتة عجوز تجاوزت التسعين. وجهها مجعد وعيناها باهتتان. وما زال على جلدها أثر قديم لحناء سابقة. الحدقتان متسعتان وثابتتان. القلب هامد لا يخفق. والصدر خامد لا يتنفس. الآن يكتشف أن الناس متساوون أكثر مما كان يظن، والأغنياء يموتون فى النهاية. يموتون كما يموت الفقراء. بدت له المُتوفاه غير مكترثة بشىء فى هذه الدنيا المفارقة، لشد ما تذكره بخضرة وهنية وغيرها من عجائز قريته اللاتى كان يعلن موتهن. تتباين حظوظ الأحياء ويتساوى الموتى.
■ ■ ■
غطى الميّتة فى احترام، ومضى فى هدوء مع الرجل عائدا إلى المستشفى. وطيلة طريق عودته، لم يعد يشاهد خلال الزجاج المصقول إلا طرقات قريته وزحامها المألوف ومشاهد فقر لم يعد يخجل منها.